الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

بيان قوله تعالى { لله ما في السماوات وما في الأرض } ، كلام يدل على ملكه تعالى لعالم الخلق مما في السماوات والأرض، وهو توطئة لقوله بعده { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } ، أي إن له ما في السماوات والأرض ومن جملتها أنتم وأعمالكم وما اكتسبتها نفوسكم، فهو محيط بكم مهيمن على أعمالكم لا يتفاوت عنده كون أعمالكم بادية ظاهرة، أو خافية مستورة فيحاسبكم عليها. وربما استظهر من الآية كون السماء مسانخاً لأعمال القلوب وصفات النفس، فما في النفوس هو مما في السماوات، ولله ما في السماوات كما أن ما في النفوس إذا أُبدي بعمل الجوارح كان مما في الأرض، ولله ما في الأرض فما انطوى في النفوس سواء أُبدي أو أُظهر مملوك لله محاط له سيتصرف فيه بالمحاسبة. قوله تعالى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } ، الابداء هو الإِظهار مقابل الاخفاء، ومعنى ما في أنفسكم ما استقر في أنفسكم على ما يعرفه أهل العرف واللغة من معناه، ولا مستقر في النفس إلاَّ الملكات والصفات من الفضائل والرذائل كالإِيمان، والكفر، والحب، والبغض، والعزم وغيرها، فإنها هي التي تقبل الاظهار والاخفاء. أما إظهارها فإنما تتم بأفعال مناسبة لها تصدر من طريق الجوارح يدركها الحس ويحكم العقل بوجود تلك المصادر النفسية المسانخة لها، إذ لولا تلك الصفات والملكات النفسانية من إرادة وكراهة، وإيمان وكفر، وحب وبغض، وغير ذلك لم تصدر هذه الأفعال، فبصدور الأفعال يظهر للعقل وجود ما هو منشأها. وأما إخفاءها فبالكف عن فعل ما يدل على وجودها في النفس. وبالجملة ظاهر قوله { ما في أنفسكم } ، الثبوت والاستقرار في النفس، ولا يعني بهذا الاستقرار التمكن في النفس بحيث يمتنع الزوال كالملكات الراسخة، بل ثبوتاً تاماً يعتد به في صدور الفعل كما يشعر به قوله إن تبدوا، وقوله أو تخفوها، فإن الوصفين يدلان على أن ما في النفس بحيث يمكن أن يكون منشأً للظهور أو غير منشأ له وهو الخفاء، وهذه الصفات يمكن أن تكون كذلك سواء كانت أحوالاً أو ملكات، وأما الخطورات والهواجس النفسانية الطارقة على النفس من غير إرادة من الإِنسان، وكذلك التصورات الساذجة التي لا تصديق معها كتصور صور المعاصي من غير نزوع وعزم فلفظ الآية غير شامل لها البتة لأنها كما عرفت غير مستقرة في النفس، ولا منشأ لصدور الأفعال. فتحصل أن الآية إنما تدل على الأحوال والملكات النفسانية التي هي مصادر الأفعال من الطاعات والمعاصي، وأن الله سبحانه وتعالى يحاسب الإِنسان بها، فتكون الآية في مساق قوله تعالىلا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }

السابقالتالي
2 3 4