الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

بيان قوله تعالى { لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي } ، الإِكراه هو الإِجبار والحمل على الفعل من غير رضى، والرشد بالضم والضمتين إصابة وجه الأمر ومحجة الطريق ويقابله الغي، فهما أعم من الهدى والضلال، فإنهما إصابة الطريق الموصل وعدمها على ما قيل، والظاهر أن استعمال الرشد في إصابة محجة الطريق من باب الانطباق على المصداق، فإن إصابة وجه الأمر من سالك الطريق أن يركب المحجة وسواء السَّبيل، فلزومه الطريق من مصاديق إصابة وجه الأمر، فالحق إن معنى الرشد والهدى معنيان مختلفان ينطبق أحدهما بعناية خاصة على مصاديق الآخر وهو ظاهر، قال تعالىفإن آنستم منهم رشداً } النساء 6، وقال تعالىولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل } الأنبياء 51، وكذلك القول في الغي والضلال، ولذلك ذكرنا سابقاً ان الضلال هو العدول عن الطريق مع ذكر الغاية والمقصد، والغيّ هو العدول مع نسيان الغاية فلا يدري الإِنسان الغوي ماذا يريد وماذا يقصد. وفي قوله تعالى { لا إكراه في الدين } ، نفي الدين الإِجباري، لما أن الدين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أُخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات، والاعتقاد والإِيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإِكراه والإِجبار، فإن الإِكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادية، وأما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أُخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والإِدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقاً علمياً، فقوله { لا إكراه في الدين } ، ان كان قضية اخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينياً بنفي الإِكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً إنشائياً تشريعياً كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله { قد تبيّن الرشد من الغي } ، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإِيمان كرهاً، وهو نهي متك على حقيقة تكوينية، وهي التي مرّ بيانها أن الإِكراه إنما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية. وقد بيّن تعالى هذا الحكم بقوله { قد تبيّن الرشد من الغي } ، وهو في مقام التعليل، فإن الإِكراه والإِجبار إنما يركن إليه الأمر الحكيم والمربي العاقل في الأمور المهمة التي لا سبيل إلى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور ورداءة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات أُخرى، فيتسبب الحاكم في حكمه بالإِكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأما الأمور المهمة التي تبيّن وجه الخير والشر فيها، وقرر وجه الجزاء الذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإِكراه، بل للإِنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لما انكشفت حقائقه واتضح طريقه بالبيانات الإِلهية الموضحة بالسنة النبوية فقد تبين أن الدين رشد والرشد في اتباعه، والغي في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحداً على الدين.

السابقالتالي
2 3 4 5