الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ }

بيان سياق هاتين الآيتين لا يبعد كل البعد من سياق الآيات السابقة التي كانت تأمر بالجهاد وتندب إلى الانفاق ثم تقص قصة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون، وقد ختمت القصة بقوله تعالى { وإنك لمن المرسلين } الآية، وافتتحت هاتان الآيتان بقوله { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } ، ثم ترجع إلى شأن قتال أُمم الأنبياء بعدهم، وقد قال في القصة السابقة أعني قصة طالوت { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى } ، فأتى بقوله { من بعد موسى } ، قيداً، ثم ترجع إلى الدعوة إلى الانفاق من قبل أن يأتي يوم، فهذا كله يؤيد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة، والجميع نازلة معاً. وبالجملة الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم أن الرسالة وخاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة ينبغي أن يختم بها بلية القتال إما من جهة أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية والأُخروية بإرسال الرسل وإيتاء الآيات البينات كان من الحري أن يصرفهم عن القتال بعد، ويجمع كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الأنبياء في أُممهم وخاصة بعد انتشار دعوة الإِسلام الذي يعد الاتحاد والاتفاق من أركان أحكامه وأُصول قوانينه؟ وإما من جهة أن إرسال الرسل وإيتاء بينات الآيات للدعوة إلى الحق لغرض الحصول على إيمان القلوب، والإِيمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوة وقهراً فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوة؟ وهذا هو الاشكال الذي تقدم تقريره والجواب عنه في الكلام على آيات القتال. والذي يجيب تعالى به أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الأمم إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجر أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم ولو شاء الله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأساً، ولو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده لكن الله سبحانه يفعل ما يريد، وقد أراد جري الأمور على سنة الأسباب، فوجد الاختلاف فوجد القتال فهذا إجمال ما تفيده الآية. قوله تعالى { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } ، إشارة إلى فخامة أمر الرسل وعلو مقامهم ولذلك جيء في الإِشارة بكلمة تلك الدالة على الإِشارة إلى بعيد، وفيه دلالة على التفضيل الإِلهي الواقع بين الأنبياء عليهم السلام ففيهم من هو أفضل وفيهم من هو مفضل عليه، وللجميع فضل فإن الرسالة في نفسها فضيلة وهي مشتركة بين الجميع، ففيما بين الرسل أيضاً اختلاف في المقامات وتفاوت في الدرجات كما أن بين الذين بعدهم اختلافاً على ما يدل عليه ذيل الآية إلاَّ أن بين الاختلافين فرقاً، فإن الاختلاف بين الأنبياء اختلاف في المقامات وتفاضل في الدرجات مع اتحادهم في أصل الفضل وهو الرسالة، واجتماعهم في مجمع الكمال وهو التوحيد، وهذا بخلاف الاختلاف الموجود بين أُمم الأنبياء بعدهم فإنه اختلاف بالإِيمان والكفر، والنفي والإِثبات، ومن المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف، ولذلك فرق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمى ما للأنبياء تفضيلاً ونسبه إلى نفسه، وسمى ما عند الناس بالاختلاف ونسبه إلى أنفسهم، فقال في مورد الرسل فضلنا، وفي مورد أُممهم اختلفوا.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد