الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } * { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

بيان قوله تعالى { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } ، الكتابة كما مر مراراً ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقاً لبيان التشريع، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين، فالآية تدل على فرض القتال على كافة المؤمنين لكون الخطاب متوجهاً إليهم إلا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالىليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } النور 61، وغير ذلك من الآيات والأدلة. ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيلة بقوله { وهو كره لكم } وهو لا يناسب إظهار الفاعل صوناً لمقامه عن الهتك، وحفظاً لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحاً مورداً لكراهة المؤمنين. والكره بضم الكاف المشقة التي يدركها من نفسه طبعاً أو غير ذلك، والكره بفتح الكاف المشقة التي تحمل عليه من خارج كأن يجبره إنسان آخر على فعل ما يكرهه، قال تعالىلا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } النساء 19، وقال تعالىفقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً } فصلت 11، وكون القتال المكتوب كرهاً للمؤمنين إما لأن القتال لكونه متضمناً لفناء النفوس وتعب الأبدان والمضار المالية وارتفاع الأمن والرخص والرفاهية، وغير ذلك مما يستكرهه الإنسان في حياته الاجتماعية لا محالة كان كرهاً وشاقاً للمؤمنين بالطبع، فإن الله سبحانه وإن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، وذكر أن فيهم رجالاً صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل، وهو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر وأُحد والخندق وغيرها، ومعلوم أن من الجائز أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره وأكثرهم كارهون، فهذا وجه. وإما لأن المؤمنين كانوا يرون أن القتال مع الكفار مع ما لهم من العدة والقوة لا يتم على صلاح الإِسلام والمسلمين، وأن الحزم في تأخيره حتى يتم لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الأموال ورسوخ الاستطاعة، ولذلك كانوا يكرهون الإِقدام على القتال والاستعجال في النزال، فبيّن تعالى أنهم مخطئون في هذا الرأي والنظر، فإن لله أمراً في هذا الأمر هو بالغه، وهو العالم بحقيقة الأمر وهم لا يعلمون إلاَّ ظاهره وهذا وجه آخر. وإما لأن المؤمنين لكونهم متربين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفار لكونه مؤدياً إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبون أن يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة، والدعوة الحسنة لعلهم يسترشدوا بذلك، ويدخلوا تحت لواء الإيمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، ونفوس الكفار من الهلاك الأبدي والبوار الدائم، فبيّن ذلك انهم مخطئون في ذلك، فإن الله - وهو المشرع لحكم القتال - يعلم أن الدعوة غير مؤثرة في تلك النفوس الشقية الخاسرة، وأنه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنيا أو آخرة، فهم في الجامعة الإنسانية كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الذي لا ينجع فيه علاج دون أن يقطع ويرمي به، وهذا أيضاً وجه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد