الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

بيان قوله تعالى { يا أيُّها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر } ، في توجيه الخطاب إلى المؤمنين خاصة إشارة إلى كون الحكم خاصاً بالمسلمين، وأما غيرهم من أهل الذمة وغيرهم فالآية ساكتة عن ذلك. ونسبة هذه الآية إلى قوله تعالىأن النفس بالنفس } المائدة 45، نسبة التفسير، فلا وجه لما ربما يقال، إن هذه الآية ناسخة لتلك الآية فلا يقتل حر بعبد ولا رجل بامرأة. وبالجملة القصاص مصدر قاص يقاص من قص أثره إذا تبعه ومنه القصاص لمن يحدّث بالآثار والحكايات كأنه يتبع آثار الماضين فتسمية القصاص بالقصاص لما فيه من متابعة الجاني في جنايته فيوقع عليه مثل ما أوقعه على غيره. قوله تعالى { فمن عفي له من أخيه شيء } ، المراد بالموصول القاتل، والعفو للقاتل إنما يكون في حق القصاص فالمراد بالشئ هو الحق، وفي تنكيره تعميم للحكم أي أيّ حق كان سواء كان تمام الحق أو بعضه كما إذا تعدد أولياء الدم فعفى بعضهم حقه للقاتل فلا قصاص حينئذٍ بل الدية، وفي التعبير عن ولي الدم بالأخ إثارة لحس المحبة والرأفة وتلويح إلى أن العفو أحب. قوله تعالى { فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإِحسان } ، مبتدأ خبره محذوف أي فعليه أن يتبع القاتل في مطالبة الدية بمصاحبة المعروف، من الاتباع وعلى القاتل أن يؤدي الدية إلى أخيه ولي الدم بالإِحسان من غير مماطلة فيها إيذاءه. قوله تعالى { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } ، أي الحكم بانتقال القصاص إلى الدية تخفيف من ربكم فلا يتغير فليس لولي الدم أن يقتص بعد العفو فيكون اعتداء فمن اعتدى فاقتص بعد العفو فله عذاب أليم. قوله تعالى { ولكم في القصاص حياة يا أُولي الألباب لعلَّكم تتقون } ، إشارة إلى حكمة التشريع، ودفع ما ربما يتوهم من تشريع العفو والدية وبيان المزية والمصلحة التي في العفو وهو نشر الرحمة وإيثار الرأفة أن العفو أقرب إلى مصلحة الناس، وحاصله أن العفو ولو كان فيه ما فيه من التخفيف والرحمة، لكن المصلحة العامة قائمة بالقصاص فإن الحياة لا يضمنها إلاَّ القصاص دون العفو والدية ولا كل شيء مما عداهما، يحكم بذلك الإِنسان إذا كان ذا لب وقوله { لعلكم تتقون } ، أي القتل وهو بمنزلة التعليل لتشريع القصاص. وقد ذكروا أن الجملة، أعني قوله تعالى { ولكم في القصاص حياة } الآية، على اختصارها وإيجازها وقلة حروفها وسلاسة لفظها وصفاء تركيبها من أبلغ آيات القرآن في بيانها وأسماها في بلاغتها، فهي جامعة بين قوة الاستدلال وجمال المعنى ولطفه، ورقة الدلالة وظهور المدلول، وقد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل والقصاص تعجبهم بلاغتها وجزالة أسلوبها ونظمها كقولهم قتل البعض إحياء للجميع وقولهم أكثروا القتل ليقل القتل، وأعجب من الجميع عندهم قولهم القتل أنفى للقتل غير أن الآية أنست الجميع ونفت الكل { ولكم في القصاص حياة } ، فإن الآية أقل حروفاً وأسهل في التلفظ، وفيها تعريف القصاص وتنكير الحياة ليدل على أن النتيجة أوسع من القصاص وأعظم وهي مشتملة على بيان النتيجة وعلى بيان حقيقة المصلحة وهي الحياة، وهي متضمنة حقيقة المعنى المفيد للغاية فإن القصاص هو المؤدي إلى الحياة دون القتل فإن من القتل ما يقع عدواناً ليس يؤدي إلى الحياة، وهي مشتملة على أشياء أُخر غير القتل يؤدي إلى الحياة وهي أقسام القصاص في غير القتل، وهي مشتملة على معنى زائد آخر، وهو معنى المتابعة التي تدل عليها كلمة القصاص بخلاف قولهم القتل أنفى للقتل، وهي مع ذلك متضمنة للحث والترغيب فإنها تدل على حياة مذخورة للناس مغفول عنها يملكونها فعليهم أن يأخذوا بها نظير ما تقول لك في مكان كذا أو عند فلان مالاً وثروة، وذلك يشير إلى أن القائل لا يريد بقوله هذا إلاَّ حفظ منافعهم ورعاية مصلحتهم من غير عائد يعود إليه حيث قال ولكم.

السابقالتالي
2 3 4 5