الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } * { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } * { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

بيان قوله تعالى { يا أيُّها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } إلى آخر الآيتين، الحلال مقابل الحرام الممنوع اقتحامه، والحل مقابل الحرمة، والحل مقابل حرم، والحل مقابل العقد، وهو في جميع موارد استعماله يعطي معنى حرية الشيء في فعله وأثره، والطيب - مقابل الخبيث - ما يلائم النفس والشيء، كالطيب من القول لملاءمته السمع، والطيب من العطر يلائم الشامة، والطيب من المكان يلائم حال المتمكن فيه. والخطوات بضمتين جمع خطوة، وهي ما بين القدمين للماشي، وقرىء خطوات بفتحتين وهي جمع خطوة وهي المرة، وخطوات الشيطان هي الأمور التي نسبتها إلى غرض الشيطان - وهو الإِغواء بالشرك - نسبة خطوات الماشي إلى مقصده وغرضه، فهي الأمور التي هي مقدمات للشرك والبعد من الله سبحانه، والأمر هو تحميل الأمر إرادة نفسه على المأمور ليأتي ما يريده، والأمر من الشيطان وسوسته وتحميله ما يريده من الإِنسان عليه باخطاره في قلبه وتزيينه في نظره، والسوء ما ينافره الإِنسان ويستقبحه بنظر الاجتماع فإذا جاوز حده وتعدى طوره كان فحشاء ولذلك سمي الزنا بالفحشاء وهو مصدر كالسراء والضراء. وقد عمم تعالى الخطاب لجميع الناس لأن الحكم الذي يقرعه سمعهم ويبينه لهم مما يبتلي به الكل، أما المشركون فقد كان عندهم أمور مما حرموه على أنفسهم افتراء على الله كما روي أن ثقيفاً وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج كانوا قد حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة، هذا في العرب، وفي غيرهم أيضاً يوجد أشياء كثيرة من هذا القبيل، وأما المؤمنون فربما كان يبقى بعد الإِسلام بينهم أمور خرافية طبق ناموس توارث الأخلاق والآداب القومية والسنن المنسوخة بنواسخ غير تدريجية كالأديان والقوانين وغيرهما فإن كل طريقة جديدة دينية أو دنيوية إذا نزلت بدار قوم فإنما تتوجه أول ما تتوجه إلى أصول الطريقة القديمة وأعراقها فتقطعه فإن دامت على حياتها وقوتها - وذلك بحسن التربية وحسن القبول - أماتت الفروع وقطعت الأذناب وإلاَّ فاختلطت بقايا من القديمة بالحديثة والتأمت بها وصارت كالمركب النباتي، ما هو بهذا ولا ذاك. فأمر تعالى الناس أن يأكلوا مما في الأرض، والأكل هو البلع عن مضغ وربما يكنى بالأكل عن مطلق التصرف في الأموال لكون الأكل هو الأصل في أفعال الإِنسان والركن في حياته كما قال تعالىلا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاَّ أن تكون تجارة عن تراض } النساء 29، والآية لا تأبى الحمل على هذا المعنى الوسيع لإِطلاقها، والمعنى كلوا وتصرفوا وتمتعوا مما في الأرض من النعم الإِلهية التي هيأتها لكم طبيعة الأرض بإذن الله وتسخيره أكلاً حلالاً طيباً، أي لا يمنعكم عن أكله أو التصرف فيه مانع من قبل طبائعكم وطبيعة الأرض، كالذي لا يقبل بطبعه الأكل، أو الطبع لا يقبل أكله، ولا تنفر طبائعكم عن أكله مما يقبل الطبع أكله لكن ينافره ويأبى عنه السليقة كالأكل الذي توسل إليه بوسيلة غير جائزة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6