الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } * { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } * { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } * { ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } * { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ }

بيان خمس آيات متحدة السياق، متسقة الجمل، ملتئمة المعاني، يسوق أولها إلى آخرها ويرجع آخرها إلى أولها، وهذا يكشف عن كونها نازلة دفعة غير متفرقة، وسياقها ينادي بأنها نزلت قبيل الأمر بالقتال وتشريع حكم الجهاد، ففيه ذكر من بلاءٍ سيقبل على المؤمنين، ومصيبة ستصيبهم، ولا كل بلاء ومصيبة، بل البلاء العمومي الذي ليس بعادي الوقوع مستمر الحدوث، فإن نوع الإِنسان كسائر الأنواع الموجودة في هذه النشأة الطبيعية لا يخلو في أفراده من حوادث جزئية يختل بها نظام الفرد في حياته الشخصية من موت ومرض وخوف وجوع وغم وحرمان، سنّة الله التي جرت في عباده وخلقه، فالدار دار التزاحم، والنشأة نشأة التبدل والتحول، ولن تجد لسنّة الله تحويلاً ولن تجد لسنّة الله تبديلاً. والبلاء الفردي وإن كان شاقاً على الشخص المبتلى بذلك، مكروهاً، لكن ليس مهولاً مهيباً تلك المهابة التي تتراءى بها البلايا والمحن العامة، فإن الفرد يستمد في قوة تعقله وعزمه وثبات نفسه من قوى سائر الأفراد، وأما البلايا العامة الشاملة فإنها تسلب الشعور العمومي وجملة الرأي والحزم والتدبير من الهيئة المجتمعة، ويختل به نظام الحياة منهم، فيتضاعف الخوف وتتراكم الوحشة ويضطرب عندها العقل والشعور وتبطل العزيمة والثبات، فالبلاء العام والمحنة الشاملة أشق وأمر، وهو الذي تلوح له الآيات. ولا كل بلاء عام كالوباء والقحط بل بلاءٌ عام قربتهم منها أنفسهم، فإنهم أخذوا دين التوحيد، وأجابوا دعوة الحق، وتخالفهم فيه الدنيا وخاصة قومهم، وما لهؤلاء هم إلاَّ إطفاء نور الله، واستئصال كلمة العدل، وإبطال دعوة الحق، ولا وسيلة تحسم مادة النزاع وتقطع الخلاف غير القتال، فسائر الوسائل كإقامة الحجة وبث الفتنة، وإلقاء الوسوسة والريبة وغيرها صارت بعد عقيمة غير منتجة، فالحجة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوسوسة والفتنة والدسيسة ما كانت تؤثر أثراً تطمئن إليه أعداء الدين فلم يكن عندهم وسيلة إلاَّ القتال والاستعانة به على سد سبيل الحق، وإطفاء نور الدين اللامع المشرق. هذا من جانب الكفر، والأمر من جانب الدين أوضح، فلم يكن إلى نشر كلمة التوحيد، وبث دين الحق، وحكم العدل، وقطع دابر الباطل وسيلة إلاَّ القتال، فإن التجارب الممتد من لدن كان الإِنسان نازلاً في هذه الدار يعطي أن الحق إنما يؤثر إذا أُميط الباطل، ولن يماط إلاَّ بضرب من إعمال القدرة والقوة. وبالجملة ففي الآيات تلويح إلى إقبال هذه المحنة بذكر القتل في سبيل الله، وتوصيفه بوصف لا يبقى فيه معه جهة مكروهة، ولا صفة سوء، وهو انه ليس بموت بل حياة، وأي حياة! فالآيات تستنهض المؤمنين على القتل، وتخبرهم أن أمامهم بلاء ومحنة لن ينالوا مدارج المعالي، وصلاة ربهم ورحمته، والاهتداء بهدايته إلاَّ بالصبر عليها، وتحمل مشاقها، ويعلمهم ما يستعينون به عليها، وهو الصبر والصلاة، أما الصبر فهو وحده الوقاية من الجزع واختلال أمر التدبير، وأما الصلاة فهي توجه إلى الرب وانقطاع إلى من بيده الأمر وأن القوة لله جميعاً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد