الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } * { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } * { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ }

بيان قوله تعالى { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } ، إشارة إلى تشريع الحجّ والأمن في البيت، والمثابة هي المرجع، من ثاب يثوب إذا رجع. قوله تعالى { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ، كأنه عطف على قوله { جعلنا البيت مثابة } ، بحسب المعنى، فإن قوله { جعلنا البيت مثابة } ، لما كان إشارة إلى التشريع كان المعنى وإذ قلنا للناس ثوبوا إلى البيت وحجوا إليه، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي، وربما قيل إن الكلام على تقدير القول، والتقدير وقلنا اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، والمصلى اسم مكان من الصلاة بمعنى الدعاء أي اتخذوا من مقامه عليه السلام مكاناً للدعاء والظاهر أن قوله { جعلنا البيت مثابة } إلخ، بمنزلة التوطئة اشير به إلى مناط تشريع الصلاة ولذا لم يقل وصلوا في مقام إبراهيم، بل قال { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ، فلم يعلق الأمر بالصلاة في المقام، بل علق على اتخاذ المصلى منه. قوله تعالى { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا } ، العهد هو الأمر والتطهير إما تخليص البيت لعبادة الطائفين والعاكفين والمصلين ونسكهم فيكون من الاستعارة بالكناية، وأصل المعنى أن خلصا بيتي لعبادة العبّاد، وذلك تطهير وإما تنظيفه من الأقذار والكثافات الطارئة من عدم مبالات الناس، { والركع السجود } جمع راكع وساجد وكان المراد به المصلون. قوله تعالى { وإذ قال إبراهيم رب اجعل } ، هذا دعاء دعا به إبراهيم يسأل به الأمن على أهل مكة والرزق وقد أُجيبت دعوته، وحاشا لله سبحانه أن ينقل في كلامه دعاء لا يستجيبه ولا يردّه في كلامه الحق فيشتمل كلامه على هجاء لغو لغى به لاغ جاهل، وقد قال تعالىوالحق أقول } ص 84، وقال تعالىإنه لقول فصل وما هو بالهزل } الطارق 13-14. وقد نقل القرآن العظيم عن هذا النبي الكريم دعوات كثيرة دعا بها، وسألها ربه كدعائه لنفسه في بادئ أمره، ودعائه عند مهاجرته إلى سورية ودعائه ومسألته بقاء الذكر الخير، ودعائه لنفسه وذريته ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، ودعائه لأهل مكة بعد بناء البيت، ودعائه ومسألته بعثة النبي من ذريته، ومن دعواته ومسائله التي تجسم آماله وتشخص مجاهداته ومساعيه في جنب الله وفضائل نفسه المقدسة، وبالجملة تعرف موقعه وزلفاه من الله عزّ اسمه، وسائر قصصه وما مدحه به ربه، يستنبط شرح حياته الشريفة، وسنتعرض للميسور من ذلك في سورة الأنعام. قوله تعالى { من آمن منهم } ، لما سأل عليه السلام لبلد مكة الأمن، ثم سأل لأهلة أن يرزقوا من الثمرات، استشعر أن الأهل سيكون منهم مؤمنون، وكافرون ودعائه للأهل بالرزق يعم الكافر والمؤمن، وقد تبرأ من الكافرين وما يعبدونه، قال تعالىفلما تبيّن له أنه عدو لله تبرء منه } التوبة 114، فشهد تعالى له بالبرائة والتبري عن كل عدو لله، حتى أبيه، ولذلك لما استشعر ما استشعره من عموم دعوته قيدها بقوله من آمن منهم - وهو يعلم أن رزقهم من الثمرات لا يتم من دون شركة الكافرين، على ما يحكم به ناموس الحياة الدنيوية الاجتماعية - غير أنه خص مسألته - والله أعلم - بما يحكم لسائر عباده، ويريد في حقهم، فأجيب عليه السلام بما يشمل المؤمن والكافر، وفيه بيان أن المستجاب من دعوته ما يجري على حكم العادة وقانون الطبيعة من غير خرق للعادة، وإبطال لظاهر حكم الطبيعة، ولم يقل وارزق من آمن من أهلة من الثمرات لأن المطلوب استيهاب الكرامة للبلد لكرامة البيت المحرم، ولا ثمرة تحصل في واد غير ذي زرع، وقع فيه البيت، ولولا ذلك لم يعمر البلد، ولا وجد أهلاً يسكنونه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد