بيان استئناف يعود فيه إلى ذكر جزاء الأعمال وعود الجميع إلى الله الحق، وقد تقدم إيماء إلى ذلك، وفيه إثبات توحيد الربوبية. قوله تعالى { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة } الخ، الحسنى مؤنّث أحسن والمراد المثوبة الحسنى، والمراد بالزيادة الزيادة على الاستحقاق بناء على أن الله جعل من فضله للعمل مثلاً من الجزاء والثواب ثم جعله حقاً للعامل في مثل قوله{ لهم أجرهم عند ربهم } البقرة 262 ثم ضاعفه وجعل المضاعف منه أيضاً حقاً للعامل كما في قوله{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } الأنعام 160 وعند ذلك كان مفاد قوله { للذين أحسنوا الحسنى } استحقاقهم للجزاء والمثوبة الحسنى، وتكون الزيادة هي الزيادة على مقدار الاستحقاق من المثل أو العشرة الأمثال نظير ما يفيده قوله{ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أُجورهم ويزيدهم من فضله } النساء 173، ولو كان المراد بالحسنى في قوله { للذين أحسنوا الحسنى } العاقبة الحسنى، وليس فيما يعقل فوق الحسنى شيء كان معنى قوله { وزيادة } الزيادة على ما يعقله الإِنسان من الفضل الإِلهي كما يشير إليه قوله{ فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرَّة أعين } السجدة 17 وما في قوله{ لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد } ق 35 فإن من المعلوم أن كل أمر حسن يشاؤه الإِنسان فالمزيد على ما يشاؤه أمر فوق ما يدركه فافهم ذلك. والرهق بفتحتين اللحوق والغشيان يقال رهقه الدَّين أي لحق به وغشيه، والقتر الدخان الأسود أو الغبار الأسود، وفي توصيفهم بقوله { ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلّة } محاذاة لما في الآية التالية من وصف أهل النار بسواد وجوههم بالقتر وهو سواد صوري والذلة وهي سواد معنوي. والمعنى للذين أحسنوا في الدنيا المثوبة الحسنى وزيادة من فضل الله - أو العاقبة الحسنى وزيادة لا تخطر ببالهم - ولا يغشى وجوههم سواد من قتر ولا ذلة، و { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون }. قوله تعالى { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة } إلى آخر الآية، جملة { جزاء سيّئة بمثلها } مبتدأ لخبر محذوف والتقدير لهم جزاء سيئة بمثلها من العذاب، والجملة خبر للمبتدأ الذي هو قوله { الذين كسبوا السيئات } والمراد أن الذين كسبوا السيئات لا يجزون إلا مثل ما عملوه من العقوبات السيئة فجزاء فعلة سيئة عقوبة سيئة. وقوله { ما لهم من الله من عاصم } أي ما لهم عاصم يعصمهم من الله أي من عذابه وفيه نفي لشركائهم الذين يظنونهم شفعاء على وجه ينفى كل عاصم مانع سواء كان شريكاً شفيعاً أو ضداً قوياً ممانعاً أو أي عاصم غيرهما. وقوله { كأنما أُغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً } القطع جمع قطعة ومظلماً حال من الليل، والمراد كأن الليل المظلم قسّم إلى قطع فأغشيت وجوههم تلك القطع فاسودّت بالتمام، والمتبادر منه أن يغشى وجه كل من المشركين بقطعة من تلك القطع لا كما فسّره بعضهم أن المراد أن الوجوه أُغشيت تلك القطع قطعة بعد قطعة فصارت ظلمات بعضها فوق بعض.