الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }

{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } اعلم، انّ فعل الله تعالى لا يتقيّد بالزّمان وقد قالوا: انّ الافعال المنسوبة الى الله منسلخة عن الزّمان فانّ المحيط كما لا يحاط ذاته بالزّمان لا يحاط فعله بالزّمان، وانّ ايّام الله محيطة بالايّام الزّمانيّة ومقادير ايّام الله متفاوتة بحسب تفاوت مراتب فعله فقد تتقدّر بالف سنةٍ وقد تتقدّر بخمسين الف سنة، وانّ السّماوات فى عرف اهل الله عبارة عن عوالم الارواح المجرّدة عن المادّة وعن التّقدّر، والارض عبارة عن عوالم الاشباح مادّيّة كانت او مجرّدة عن المادّة كعالمى المثال ومنها سماوات عالم الطّبع لتقدّرها وتعلّقها بالمادّة، وانّ مراتب الممكنات الّتى هى مخلوقات الله وفيها تتحقّق السّماوات والارض بوجه ستّ وبوجه ثلاث صائرة بحسب النّزول والصّعود ستّاً وهى مرتبة المقرّبين المهيمين الّذين هم قيام لا ينظرون، ومرتبة الصّافّات صفّاً ويعبّر عن الصّنفين بالعقول الطّوليّة والعقول العرضيّة المسمّاة بارباب الانواع فى لسان حكماء الفرس، ومرتبة المدبّرات امراً ومرتبة الرّكّع والسّجّد، ومرتبة المتقدّرات المجرّدة عن المادّة، ومرتبة المادّيّات وخلقة السّماوات والارض وتماميّتها فى تلك المراتب السّتّ، واذا اريد بالسّماوات والارض سماوات عالم الطّبع وارضه فخلقتها بوجودها الطّبيعىّ وان كانت فى عالم الطّبع لكنّها بوجودها العلمىّ موجودة فى المراتب العالية عليه وهذه هي الايّام الستّة الرّبوبيّة الّتى خلقت السّماوات والارض فيها، وتلك المراتب مع المشيّة الّتى هى عرش الرّحمن بوجه وكرسيّه بوجهٍ تصير سبعاً نزولاً، وباعتبار صعودها تصير مثانى وهذه هى السّبع المثانى الّتى اعطاها الله محمّداً (ص)، ولمّا كان المتحقّق بتلك المراتب نزولاً وصعوداً منحصراً فى الائمّة (ع)، لانّهم المتحقّقون بها على الاطلاق وغيرهم متحقّقون بها بتحقّقهم قالوا: نحن السّبع المثانى الّتى اعطاها محمّداً (ص) بطريق الحصر، ثم لمّا كان عرش الرّحمن الّذى هو المشيّة الّتى هى الحقّ المخلوق به اضافته الاشراقيّة المأخوذة لا بشرطٍ وكان بهذا الاعتبار متّحداً مع جميع الاشياء، بل كان حقيقة كلّ ذى حقيقة وكان باعتبار كونه اضافة ومأخوذاً لا بشرط لا تحقّق له الاّ بتحقّق جميع ما ينضاف اليه ولا يتمّ الاّ بما ينضاف اليه، قال بعد ذكر خلق السّماوات والارض الّتى هى جملة الاشياء { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } معطوفاً بكلمة التّراخى، لانّ الاستواء فى العرف هو الجلوس على العرش ولا يتمّ هذا المعنى الاّ بتماميّة العرش وليس تماميّة العرش الاّ بتماميّة السّماوات والارض، ولذا فسّروا الاستواء لنا باستواء نسبته الى الجليل والدّقيق، ولمّا كانت المشيّة اضافته الحقيقيّة الى الاشياء كانت ذات جهتين جهة الى المضاف وجهة الى المضاف اليه، وباعتبار جهتها الى المضاف تسمّى عرشاً ولذا يطلق عليها هذا الاسم حين تنسب الى الله، وباعتبار جهتها الى المضاف اليه تسمّى كرسيّاً ولذا يطلق عليها هذا الاسم حين تنسب الى الاشياء وسع كرسيّه السّماوات والارض، وورد ان جميع الاشياء فى الكرسىّ والكرسىّ فى العرش، ووجه كون الكرسىّ فى العرش انّ الجهة المنسوبة الى المضاف محيطة بالجهة المنسوبة الى المضاف اليه، وقد يسمّى عقل الكلّ بالعرش ونفس الكلّ بالكرسىّ لكونهما مظهرى الجهتين، وقد يسمى الفلك المحيط عرشاً والفلك المكوكب كرسيّاً لكونهما مظهرى هذين المظهرين { يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ } يغطّى بليل الزّمان نهار الزّمان، وبليل عالم الطّبع نهار عالم الارواح، وبليل الملكوت السّفلىّ نهار الملكوت العليا، وبليل طبع الانسان نهار روحه، وبليل جهله نهار علمه، وبليل شهواته وسخطاته نهار رغباته ومرضاته، وبليل رذائله نهار خصائله، وبليل اسقامه نهار صحّته، وبليل ضعفه نهار قوّته وهكذا { يَطْلُبُهُ } يتعقّبه كالطّالب له { حَثِيثاً } وفى استعمال الطّلب والحثّ هناك دليل على التّعميم وكان المناسب ان يقول: ويكشف النّهار اللّيل او يغشى النّهار اللّيل، ولكنّه تعالى تركه اشارة الى اصالة النّهار وعرضيّة اللّيل ولو قال ذلك لأوهم اصالتها وانّ تقابلهما تقابل الوجوديّين { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } قرئ بنصب الشّمس والقمر والنّجوم ومسخّراتٍ، وقرئ برفعها فهى معطوفة على السّماوات على قراءة النّصب فيها، او على خلق بتقدير جعل، او على يغشى بتقدير يجعل وعلى قراءة الرّفع فيها فهى مبتدء وخبر { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } فذلكة لما سبق ولذا أتى باداة التّنبيه فانّه لمّا ذكر انّه خالق سماوات الارواح واراضى الاشباح وانّه المستوى القاهر على العرش الّذى هو جملة عالمى الامر والخلق، ثمّ ذكر تدبيره للعوالم باغشاء اللّيل النّهار على وفق حكمته البالغة، فانّه بهذا الاغشاء يتمّ تربية المواليد ولا سيّما غايتها الّتى هى الانسان، فانّ الانسان بقالبه وقلبه تستكمل بتضادّ اللّيل والنّهار وتعاقبهما بجميع معانيهما وتسخير الشّمس والقمر والنّجوم الّذى به يتمّ نظام العالم وينتظم معاش بنى آدم، استفيد منه مبدئيّته لعالمى الخلق والامر ومالكيّته لهما فنبّه على المستفاد واتى بالّلام الدّالّة على المبدئيّة والمالكيّة والمنتهائيّة، مشيراً الى الاختصاص المؤكّد بتقديم الظّرف ثمّ مدح نفسه بكثرة الخيرات مؤكّداً بربوبيّة العالم بقوله { تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } ثمّ فرّع عليه الامر بالدّعاء والتّضرّع، فانّ من لا شأن له سوى المخلوقيّة والمربوبيّة لا ينبغى له الخروج عن التّعلّق والدّعاء والتّضرّع عند ربّه الّذى هو مالك الكلّ وصاحب الخيرات الكثيرة بقوله { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ }.