الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق


{ وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ } * { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

{ وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً } وهى شهر ذى القعدة كما نقل لاعطاء كتاب فيه بيان كلّ شيء { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } من ذى الحجّة لسواك استاك آخر الثّلاثين قبل الافطار { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ } لاعطاء الكتاب { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ } حين خرج من بين قومه للميقات { لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } التفات من التّكلّم الى الغيبة اشارة الى انّ التّكلّم صدر من مقام ظهوره الّذى هو الولاية المطلقة المتحقّق بها علىّ (ع) كما انّ المتكلّم مع محمّد (ص) ليلة المعراج كان عليّاً (ع)، ولمّا سمع موسى (ع) كلامه تعالى اشتدّ شوقه والتهب حرارة طلبه ولم يتمالك، فطلب وسأل ما ليس له من الشّهود والرّؤية مع انّه كان بعد فى الحدّ والغيبة وباقياً عليه الانانيّة وليس شأن المحدود ادراك المطلق ورؤيته، فانّ من شرائط الرّؤية والادراك صيرورة الرّائى سنخاً للمرئىّ او المرئىّ سنخاً للرّائى والاّ فلا يقع الرّؤية ولا يحصل المشاهدة؛ الا ترى انّ النّفس فى مشاهدة الاجسام محتاجة الى آلة جسمانيّة وقوّة جرمانيّة وتلك القوّة الجسمانيّة محتاجة الى تدريد الصّورة من المادّة لتجرّدها نحواً من التّجرّد، فلمّا لم يتمالك { قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي } فانّك غير خارجٍ من حدودك ولو شاهدتنى بحودك لفنيت فليس لك شأن رؤية المطلق { وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } جبل الحجر او جبل انانيّتك { فَإِنِ اسْتَقَرَّ } الجبل لتجلّى نورٍ من انوار المطلق { مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } مع جبل حدّك وانّيّتك { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ } الّذى هو المطلق المضاف لا المطلق المطلق { لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ } الله او الرّبّ او التّجلّى { دَكّاً } متفتّتاً متلاشياً { وَخَرَّ موسَىٰ } لاندكاك انّيّته { صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ } عن سؤالى عن مثلك ما ليس لى { تُبْتُ إِلَيْكَ } من سؤالى { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } بأنّك لا ترى لمثلى.

اعلم، انّ الادراك حقيقةً مشكّكة ذات مراتب متفاوتة فى الشّدّة والضّعف، ولكلّ مرتبة من مراتبه اسم خاصّ وشرائط خاصّة لحصولها مثلاً ادراك زيد تصوّراً جزئياً مرتبة منه ادراكه بالبصر ويسمّى رؤية، ومرتبة منه ادراكه بالخيال ويسمّى تخيّلاً، ومرتبة منه ادراكه بالعين المثاليّة فى المنام ويسمّى رؤيا، ومرتبة ادراكه بالعين المثاليّة بالكشف الصّورىّ فى عالم المثال ويسمّى كشفاً صوريّاً وشهوداً؛ والكلّ ادراك النّفس الانسانيّة لشخص زيد بحيث لا يمكن لاحدٍ ان يقول: انّ زيداً بشخصه غير مدرك فى مرتبة من تلك المراتب والتّفاضل بين تلك الادراكات بديهىّ وجدانىّ، فانّ ادراك الخيال اضعف انواع الادراك واقواها الادراك بالرّؤية والادراك شهوداً بالعين المثالىّ، وكما يسمّى الادراك البصرىّ رؤية يسمّى الادراك الكشفىّ رؤية كما لا يخفى، هذا فى التّصوّرات والادراكات الجزئيّة وهكذا الحال فى التّصديقات والادراكات الكلّيّة، فانّ الحكم بكون الامير فى البلد قد يدرك توهّماً، وقد يدرك شكّاً وظنّاً، وقد يدرك علماً عادّياً وتقليديّاً ويقينيّاً برهانيّاً ويقينيّاً شهوديّاً والتّفاضل بينها غير مخفىّ واقواها واتمّها واشدّها هو العلم الشّهودىّ ويسمّى هذا العلم الشّهودىّ فى ذلك التّصديق الشّخصىّ رؤية باعتبار، كما يسمّى علماً وشهوداً وعياناً وتصديقاً باعتباراتٍ اُخر، وعلم من ذلك انّ الرّؤية غير مختصّة بالرّؤية البصريّة المشروطة بمقابلة المرئىّ للرّائى او بحكم المقابلة كالرّؤية فى المرآة والماء وبتوسّط جسمٍ مشفّ وعدم القرب المفرط والبعد المفرط وعدم آفةٍ فى العين وعمدتها التفات النّفس الى الالة وفعلها، فانّ الادراك البصرىّ صفة النّفس لكن فى مقامها النّازل ومرتبة الباصرة بل مقولة على ادراك عين الخيال فى عالم المثال كرؤية المكاشفين والنّائمين الرّائين الرّؤيا الصّادقة، وعلى ادراك عين الخيال فى عالم الخيال كرؤية المسرسمين والمبرسمين والنّائمين الرّائين الرّؤيا الكاذبة، فانّه لا يشكّ احد من هؤلاء ولا ممّن اطّلع على عالمهم وكيفيّة ادراكهم انّ مدركاتهم مرئيّات حقيقة وانّه لا يصحّ سلب الرّؤية عنها.

السابقالتالي
2 3 4