الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق


{ جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ جَعَلَ ٱللَّهُ } جملة مستأنفة فى مقام التّعليل لتحريم صيد البرّ حين الاحرام لزيارة البيت او حين دخول الحرم الّذى هو حريم البيت، وجعل بمعنى صيّر او بمعنى خلق { ٱلْكَعْبَةَ } سمّى الكعبة كعبة لتكعّبه والعرب تسمّى كلّ مربّع وناتٍ كعباً وكعبة { ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } مفعول ثانٍ او بدل من الكعبة والتّوصيف بالحرام لحرمة هتكه بأخذ الصّيد من حواليه واقتصاص الملتجى الى حريمه الّذى هو الحرم { قِيَاماً لِّلنَّاسِ } مفعول ثانٍ او حال من قام اذا اعتدل اى جعلها سبب اعتدال للنّاس او جعلها معتدلة لانتفاع النّاس، او من قام المرأة اذا قام بشأنها وكفى امرها والمعنى جعلها كافية للنّاس او بمعنى القوام الّذى هو ما يعاش به او بمعنى ملاك الامر وعماده يعنى جعلها عماد جملة الامور للنّاس فى معادهم ومعاشهم { وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } اى جنس الشّهر الحرام وافراده اربعةٌ ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب او الشّهر الحرام المعهود اى شهر الحجّ وهو عطف على الكعبة سواء قدّر توصيفه بكونه قياماً للنّاس او لم يقدر { وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ } اى ذوات القلائد او القلائد انفسها وقد مضى ذكرها فى اوّل السّورة، اعلم، انّ جعل كعبة القلب بيت الله الحرام وسبب اعتدال للنّاس فى العالم الصّغير وكافية لامورهم وما به تعيشهم وملاك أمرهم وعمادهم واضح وكذلك كون الشّهر الحرام الّذى هو الصّدر وهدى القوى وقلائدها او ذوات القلائد منها، وكون صاحب القلب وصاحب الصّدر والطّالبين للوصول اليهما قياماً للنّاس لا خفاء فيه، وقد مضى فى اوّل السّورة اشارة الى التّأويل فيها وعند قوله: من دخله كان آمناً فى سورة آل عمران وكون كعبة الاحجار قياماً للنّاس يظهر ممّا سبق منّا من انّها ظهور القلب ويجرى فيها كلّ ما يجرى فى القلب على انّها يربح فيها تاجروها ويرزق ساكنوها ويؤمن ملتجئوها ويخلّف نفقات زائريها ويستجاب دعاء الدّاعين فيها لمعاشهم ومعادهم، وبقاء اهل الارض تماماً ببقائها فيهم وزيارة بعضهم لها كما أشير اليه فى الخبر، وكون الشّهر الحرام قياماً لما سبق من انّه مظهر الصّدر ومظهر صاحب الصّدر وكلّما يجرى فيه يجرى فيه على أنّه شهر فراغه عن القتال وشهر اشتغال بمرمّة المعاش والمعاد، وكون الهدى والقلائد قياماً للنّاس لانّهما مظاهر لطالبى العلم وهم بركات لاهل الارض على انّه ينتفع بايعوها بثمنها واكلوها بلحومها واهبها { ذٰلِكَ } يعنى جعل الكعبة الّتى هى فى بلد خال من الزّراعات واسباب التّجارات من سائر منافع البرّ والبحر وخال نواحيه القريبة والبعيده من الزّراعات والتّجارات سبب تعّيش النّاس وارباحهم الدّنيويّة والمنافع الغير المترقّبة وهو مبتدء خبره قوله تعالى { لِتَعْلَمُوۤاْ } بذلك { أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } من الاسباب الغيبيّة الرّوحانيّة والاسباب السّماويّة العلويّة البعيدة { وَ } يعلم { مَا فِي ٱلأَرْضِ } من الاسباب الطّبيعيّة الحسّيّة القريبة لانّكم بعدما رأيتم ارتزاق اهل هذا البلد الخالى من كلّ ما ينتفع به مع انتفاعهم وارباحهم الكثيرة، علمتم انّه ليس الاّ بتسبيبات آلهيّة من دون استقلال الاسباب الطّبيعيّة، بخلاف ما اذا كان الكعبة فى البلاد المعمورة الكثيرة الزّراعات والتّجارات فانّه لا يعلم حينئذٍ انّ ارزاق اهلها باسباب آلهيّةٍ او اسباب طبيعيّة، بل يعتقد انّها باسباب طبيعيّة كما عليه اصحاب الحسّ والطّبيعيّون والدّهريّون، واذا علمتم انّ ارزاق الخلق وارباحهم ليست الاّ باسباب آلهيّة علمتم انّه تعالى يعلم جميع الاسباب القريبة والبعيدة والرّوحانيّة والجسمانيّة والعلويّة والسّفليّة وانّه تعالى يقدر على توجيه الاسباب نحو هذا المسبّب، ولم يقل لتعلموا انّ الله يقدر لانّ القدرة سبب قريب من المسبّب بخلاف العلم فكأنها تستفاد من حصول المسببّ { وَ } لتعلموا { أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } لانّ من علم الاسباب الخفيّة الرّوحانيّة والجليّة الجسمانيّة وتوجيه تلك الاسباب نحو مسبّب بعيد الحصول كان عالماً بكلّ شيءٍ من الجليل والحقير وهو تأكيدٌ وتعميم بعد اطلاق وتخصيص.