الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ }

{ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى } يهدى به للحقّ { وَنُورٌ } يكشف به المبهمات، تعليل لعدم ايمانهم وتعريض بمن يعرض عن القرآن الّذى فيه بيان الحقّ وكشفه من ولاية علىّ (ع) { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } صفة لبيان حالهم وتعريض بانّ من لم يرض بحكم القرآن لم يكن مسلماً منقاداً لله { لِلَّذِينَ هَادُواْ } يحكم بها { وَٱلرَّبَّانِيُّونَ } الّذين طلبوا الحقّ بالرّياضات والمجاهدات { وَٱلأَحْبَارُ } الّذين طلبوه بالعلم وطريق البحث { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ } استحفظه طلب منه حفظ شيءٍ او جعله حافظاً لشيءٍ، ولفظة ما موصولة او مصدريّة وفيه اشارة الى انّهم كانوا حافظين لكتاب الله من التّغيير او حافظين له فى صدورهم { مِن كِتَابِ ٱللَّهِ } التّدوينىّ او احكام النّبوّة { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } يشهدون له على من يغيّره، وعنهم (ع) فى بيان التّعريض: هذه الآية فينا نزلت، والرّبانيّون الائمّة دون الانبياء الّذين يربّون النّاس بعلمهم، والاحبار هم العلماء يعنى انّ المقصود التّعريض بامّة محمّد (ص) وانزال القرآن وانّ الحاكم به هم الائمّة (ع) ومشايخهم الّذين اجازوا لهم الحكم به { فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ } فى حكوماتكم ولا تعرضوا عمّا قرّرناه من الاحكام، والخطاب لمحمّد (ص) ولمّا كان التّعريض بامّته جمع أمّته معه فى الخطاب { وَٱخْشَوْنِ } فانّى احقّ بالخشية { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي } التّدوينيّة بان تغيّروها وتبدّلوها، ولا بآياتى التّكوينيّة من النّبىّ (ص) وقوله (ص) ومن الائمّة الهداة { ثَمَناً قَلِيلاً } من الاعراض الدّنيويّة واغراضها، وقد مضى فى اوّل البقرة فى نظير الآية تفصيل تامّ لاشتراء الثّمن القليل بالآيات { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } اعلم، انّ الآيات الثّلاثة مذكورة ههنا بهذه الصّورة من ترتّب الكفر والظّلم والفسق على عدم الحكم بما انزل الله، ويلزم منه ان يكون كلّ فرد من افراد الانسان حاكماً بما انزل الله تعالى حتّى لا يكون داخلاً تحت الآيات، والحال انّ اكثرهم لا يعلمون حكم الله وليس كلّ من يعلم حكم الله يؤذن له فى الحكم بين النّاس، ولذلك فسّروه بمن يحكم بغير ما انزل الله وهو اخصّ من الاوّل، لانّ عدم الحكم بما انزل الله امّا بان لا يحكم اصلاً او بان يحكم بغير ما انزل الله والتّحقيق فى هذا المقام ان يقال: انّ ما انزل الله غير مختصّ بالتّدوينىّ بل هو اعمّ من التّدوينىّ الّذى اتى به الانبياء (ع) مسطوراً فى الصّحائف والالواح ومن التّكوينىّ فى العالم الكبير من النّبوّات واحكامها الّتى نزلت من مقام الرّوح الى قلوب الانبياء (ع) ومنها الى صدورهم، ومنها الى الخلق من السّياسات والعبادات القالبيّة، ومن التّكوينىّ فى العالم الصّغير من الاحكام العقليّة النّازلة من مقام العقل او انّ البلوغ الى صدور الخلق فكلّ انسانٍ له زاجرا آلهىّ وشيطان يغويه وكلّ انسان له الحكومة لا محالة، امّا فى وجوده وعالمه الصّغير لانّه لا محالة لا يخلو عن حركة وسكون ولو فى الاكل والشّرب وسائر الضّروريّات، وان كان له عيال ودار ففى اهل داره ايضاً وان كان له خدم وحشم واموال ففيها ايضاً، ولا بدّ لحركته وسكونه الاختياريّين من محرّكٍ وباعثٍ فالباعث ان كان الهيّاً فهو حاكم فى حركته وسكونه بما انزل الله من حكم العقل على صدره، وان كان شيطانيّاً فهو حاكم بغير ما انزل الله وهذا الحاكم بين الخلق ان كان الباعث له على الحكومة آلهيّاً كان حاكماً بما انزل الله، وان كان شيطانيّاً كان حاكماً بغير ما انزل الله ولم يحكم بما انزل الله، وان كان صورة الحكم صورة ما انزل الله فانّه اذا حكم من لم يكن مأذوناً من الله بلا واسطةٍ كالانبياء (ع) او بالواسطة كأوصيائهم (ع) وكان حكمه بصورة ما انزل الله فى التّدوين او فى النّبوّات كان حكمه بغير ما انزل الله وكان طاغوتاً، وما ورد فى الاخبار من انّ هذا مجلس لا يجلس فيه الا نبيٌّ او وصىّ او شقىّ؛ يدلّ على هذا، لانّ من جلس بغير الوصاية لم يكن جلوسه وحكمه بما أنزل الله بل بغير ما أنزل الله وبحكم الشّيطان ولذلك علّق الشّفاعة الّتى هى والحكومة توأمان على الاذن فى عدّة من الآيات، وممّا ذكرنا ظهر انّ عدم الحكم بما أنزل الله لازمٌ مساوٍ لحكم بغير ما أنزل الله لا انّه أعمّ منه لانّ الانسان لا يخلو من حكومة ما، ومن لم يكن خالياً من الحكومة فكلّما لم يحكم بما أنزل الله كان حاكماً بغير ما أنزل الله لما عرفت من التّلازم فصحّ ما ورد من تفسيره فى الاخبار بالحكم بغير ما أنزل الله؛ روى عن امير المؤمنين (ع) انّ الحكم حكمان؛ حكم الله وحكم الجاهليّة فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهليّة وهو دليل على ما قلنا.