الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق


{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }

{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } هذه الجملة كسابقتها جوابٌ لسؤالٍ مقدّرٍ ومحمّد مبتدء ورسول الله خبره او رسول الله صفته وقوله { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } عطف على محمّد (ص) عطف المفرد والمعنى على الوجه الاوّل محمّد رسول الله (ص) والّذين معه فى المرتبة رسل الله، وعلى الوجه الثّانى محمّد رسول الله (ص) مع الّذين معه { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ } او عطف على رسول الله (ص) على الوجه الاوّل والمعنى محمّدٌ رسول الله (ص) وهو الّذين معه فى الدّرجة فانّه لا فرق بينه وبين من كان معه فى الدّرجة، او هو الّذين معه بالبيعة والتّوبة فانّه وان كان غيرهم بوجهٍ لكنّه فعليّتهم الاخيرة وقد مرّ مراراً انّ شيئيّة الشّيء بفعليّته الاخيرة فشيئيّتهم الّتى هى فعليّتهم الاخيرة محمّد (ص) باعتبار تنزّله بصورته الى مراتبهم فانّه قد مضى مكرّراً انّ البيعة تورث تكيّف البائع بحسب نفسه وفعليّته الاخيرة بصورةٍ نازلةٍ من الّذى بويع معه، وقوله تعالى اشدّاء على الكفّار { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } قرئ بالرّفع خبراً لمحمّدٍ (ص) والّذين معه على وجهٍ او خبراً للّذين معه على وجهٍ، او خبراً لمبتدءٍ محذوفٍ على وجهٍ، وقرئ بالنّصب حالاً، ولم يأت بأداة الوصل للاشعار بانّهم جامعون بين الوصفين فى جميع الاحوال لا انّ بعضهم اشدّاء وبعضهم رحماء، ولا انّهم فى حالٍ اشدّاء وفى حالٍ رحماء كأنّهم مرجوا الشّدّة بالرّحمة نظير حلوٌ حامضٌ، لكنّ الاشدّاء بمادّته والرّحماء بهيئته يدلاّن على انّهم جامعون بين الوصفين وكاملون فيهما { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } كأنّهم من كثرة صلاتهم مزجوا بين الوصفين { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } الفضل عبارة عمّا يفيض الله على العباد بحسب مقام كثرتهم، والرّضوان عبارة عمّا يفيضه عليهم بحسب مقام وحدتهم وبعبارةٍ اخرى الفضل جزاء الاعمال المأخوذة بحسب قبول الرّسالة وهى احكام القالب، والرّضوان جزاء الاعمال المأخوذة بحسب قبول الولاية وهى احكام القلب والرّوح { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } المراد به الاثر الّذى يحدث فى جباههم من كثرة السّجود فى الصّلاة، او المراد الاثر الّذى يحدث فى وجوههم من السّهر بسبب صلاة اللّيل، او الاثر الّذى يحدث فى وجوههم من كثرة خشوعهم لله تعالى { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ }.

اعلم، انّ السّالك له شأنان؛ شأن السّلوك وشأن الجذب وهو بشأن السّلوك يؤدّى الحقوق ويقيم كثرات وجوده من قواه وجنوده ويقيم من كان تحت يده من اهله وعياله وخدمه وحشمه ويصلحهم ويسدّ فاقتهم، وبشأن الجذب ينصرف عن الكثرات الى الوحدة ويجذب قواه وجنوده وعياله الى جهة الوحدة، ويجعل مرمّة معاشه ومعاش من تحت يده بحيث يؤدّى الى حسن معاده، وبعبارةٍ اخرى له توجّه الى الكثرات وتوجّه الى الوحدة، وبتوجّهه الى الكثرة يصلح معاشه بحيث يؤدّى الى حسن معاده، وبتوجّهه الى الوحدة يصرف قواه وجنوده عن الكثرة الى الوحدة، وبعبارةٍ اخرى له قربان؛ قرب النّوافل وقرب الفرائض، وبعبارةٍ اخرى ما يصل اليه من الله امّا يصل اليه بكسبه واعماله وسبق استعداده واستحقاقه واختياره وانانيّته، او من دون ذلك، والكامل ايضاً له نظران؛ نظر الى الكثرة ونظر الى الوحدة، ووجه الى الكثرة ووجه الى الوحدة، وبالوجه الى الوحدة يأخذ من الله وبالوجه الى الكثرة يفيض ما يأخذه على غيره، وبتفاوت هذين النّظرين يختلف الكاملون فى مراتب الكمال، والكامل المطلق من كان نظره الى الطّرفين متساوياً من غير ترجّحٍ لاحد الطّرفين على الآخر وهو شأن محمّدٍ (ص) والّذين معه، وامّا سائر الانبياء (ع) فلا يخلو احد منهم من رجحان احد الطّرفين وانّ موسى (ع) كان نظره الى الكثرات غالباً على نظره الى الوحدة، وعيسى (ع) كان نظره الى الوحدة غالباً ولذا نقل فيما نقل انّ محمّداً (ص) قال: انّ اخى موسى (ع) كان عينه اليمنى عمياء، واخى عيسى (ع) كان عينه اليسرى عمياء، وانا ذو العينين، وللاشارة الى انّ محمّداً (ص) والمحمّديّين جامعون للطّرفين وكاملون فى النّظرين وتامّون فى القربين قال: ذلك الّذى ذكرنا من اتّصافهم بالاوصاف الاختياريّة والاحكام القالبيّة، واصلاح الكثرة مثلهم فى التّوراة الّذى هو نشأة موسى (ع) { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ } الّذى هو حال نشأة عيسى (ع) { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } قرئ بسكون التّاء وفتحها وقرئ بالمدّ وبالقصر، والشّطأ فرخ الحيوان والنّبات وورق النّبات { فَآزَرَهُ } قرئ من الثّلاثىّ المجرّد وبالمدّ من باب الافعال او المفاعلة والمعنى اعانه وقوّاه حتّى لحقت هذه الافراخ الامّهات او حتّى استكمل الاوراق { فَٱسْتَغْلَظَ } الزّرع او الشّطأ { فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ } فاستوى الزّرع او الفرخ { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ } بحسنه واستغلاظه، قيل: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لمحمّدٍ (ص) واصحابه فالزّرع محمّد (ص) والشّطأ اصحابه والمؤمنون حوله وكانوا فى ضعف وقلّة كما يكون اوّل الزّرع دقيقاً ثمّ غلظ وقوى وتلاحق فكذلك المؤمنون قوّى بعضهم بعضاً حتّى استغلظ واستووا على امرهم { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالبيعة العامّة { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } بالبيعة الخاصّة فانّها اصل جميع الصّالحات، ومن باع البيعة الخاصّة كان كأنّه عمل جميع الصّالحات او آمنوا بالبيعة الخاصّة وعملوا الصّالحات على طبق ما اخذ منهم فى بيعتهم { مِنْهُمْ } من النّاس او من الّذين آمنوا او من الّذين مع محمّدٍ (ص) { مَّغْفِرَةً } ستراً لمساويهم { وَأَجْراً عَظِيماً } لا يمكن ان يوصف.