الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ }

{ وَأَذِّن } بالغ فى الاعلام { فِي ٱلنَّاسِ } لم يقل اذّن النّاس للاشعار بانّ اعلامه لم يكن للجميع بل لمن شاء الله ان يسمعه نداء ابراهيم فانّه روى انّ ابراهيم (ع) صعد ابا قبيسٍ فقال: يا ايّها النّاس حجّوا بيت ربّكم فأسمعه الله من فى اصلاب الرّجال وارحام النّساء فيما بين المشرق والمغرب ممّن سبق فى علمه ان يحجّ وليس المراد من كان فى زمانه فى اصلاب الرّجال وارحام النّساء بل من كان يقع فى اصلاب الرّجال وارحام النّساء الى يوم القيامة وذلك انّ ابراهيم (ع) نادى بلسانه الملكوتىّ وندائه الملكوتىّ وسمع من سمع باذنه الملكوتىّ وكلّ النّاس كانوا قبل هذا العالم فى العوالم العالية من العوالم الملكوتيّة والجبروتيّة من النّفوس والعقول، فمن سمع فى تلك العوالم بتلك الآذان اجاب، ومن لم يسمع وكان اصمّ من ذلك النّداء فى تلك العوالم لم يجب ولم يحجّ فى هذا العالم، وعلى هذا جاز تفسير اصلاب الرّجال وأرحام النّساء بالعوالم العالية من العقول والنّفوس وان يكون وجودهم فى الاصلاب والارحام كناية عن وجودهم الاجمالىّ فى العقول والنّفوس من دون تفصيلٍ وتمييزٍ، وروى انّه لمّا امر ابراهيم واسماعيل ببناء البيت وتمّ بناؤه قعد ابراهيم (ع) على ركن ثمّ نادى: هلمّ الحجّ فلو نادى هلمّوا الى الحجّ لم يحجّ الاّ من كان يومئذٍ انسيّاً مخلوقاً ولكن نادى هلمّ هلمّ الحجّ الحجّ فلبّى النّاس فى اصلاب الرّجال لبّيك داعى الله لبّيك داعى الله، فمن لبّى عشراً حجّ عشراً، ومن لبّى خمساً حجّ خمساً، ومن لبّى اكثر فبعدد ذلك، ومن لبّى واحدةً حجّ واحدةً، ومن لم يلبّ لم يحجّ، وفى خبرٍ فأسمع من فى اصلاب الرّجال وارحام النّساء الى ان تقوم السّاعة، وورد فى الخبر انّ الخطاب فى قوله تعالى اذّن فى النّاس لمحمّدٍ (ص) فعن الصّادق (ع) انّ رسول الله اقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ ثمّ انزل الله تعالى واذّن فى النّاس بالحجّ (الآية) فأمر المؤذّنين ان يؤذّنوا بأعلى اصواتهم بانّ رسول الله (ص) يحجّ فى عامه هذا، فعلم به من حضر بالمدينة واهل العوالى والاعراب واجتمعوا لحجّ رسول الله وانّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون به فيتّبعونه او يصنع شيئاً فيصنعونه { بِٱلْحَجِّ } اى بقصد البيت للمناسك المخصوصة { يَأْتُوكَ } لم يقل يأتوا البيت للاشارة الى انّ المقصود من تشريع الحجّ زيارة القلب وصاحبه لا زيارة البيت واحجاره كما انّ فى قولهفَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ } [ابراهيم:37] اشارة الى ذلك، والى هذا اشار الباقر (ع) حين رأى النّاس يطوفون حول الكعبة بقوله: هكذا كانوا يطوفون فى الجاهليّة انّما امروا ان يطوفوا ثمّ ينفروا الينا فيعلمونا ولايتنا ومودّتهم ويعرضوا علينا نصرتهم { رِجَالاً } اى مشاة قرئ بكسر الرّاء وتخفيف الجيم وضمّها وتخفيف الجيم وتشديده وكسكارى { وَ } محمولين بانفسهم او احمالهم { عَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ } لمّا كان ما حول مكّة برار بعيدة خالية من الماء والعشب وكان كلّ فرس او جمل او استر او حمار يأتى مكّة يضمر ويلصق بطنه بظهره ادّاه بلفظ الضّامر، ولمّا لم يكن الآتون يستوعبون بافرادهم جميع الضّامرات الّتى فى العالم وصفه بقوله { يَأْتِينَ } يعنى يأتين لقصد صاحبيهنّ مكّة { مِن كُلِّ فَجٍّ } اى طريق واسع وهو فى الاصل الطّريق الواسع بين الجبلين لكن اتّسع واستعمل فى مطلق الطّريق { عَميِقٍ } اى بعيد يعنى من كلّ فجّ فى اطراف مكّة لا فى العالم، وهذه التّقييدات خلاف ظاهر الآية ولا بدّ منها لتصحيح تنزيلها، فانّ ظاهر الآية هكذا اذّن فى النّاس جميعاً فانّ الّلام فى مثله ليس الاّ للاستغراق يأتوك باجمعهم رجالاً وركباناً على كلّ ضامرٍ فى العالم يأتين من كلّ فجٍّ عميقٍ فى العالم، والحال انّه ما اتوا او لا يأتى جميع النّاس ولا كلّ الضّامرات يأتين ولا كلّ الضّامرات الآتيات يأتين الى مكّة ولا كلّ الآتيات الى مكّة مركوباتٍ للحاجّين ولا كلّ المركوبات للحاجّين يأتين من كلّ فجٍّ عميقٍ فى العالم، لكنّه لمّا اراد التّنبيه على التّأويل ادّى الآية بهذه العبارة فانّها باطلاقها وعمومها فى جميع الفاظها صحيحة بحسب التّأويل؛ لانّه اذا اذّن ابراهيم (ع) الّذى فى العالم الصّغير او محمّد (ص) فيه بلسان الرّسالة او الولاية فى النّاس فى العالم الصّغير بحجّ بيت الله الحرام الّذى هو القلب اسمع الله تعالى نداءه لجميع القوى الانسانيّة الموجودة والمكمونة المجرّدة عن الاختلاط بالقوى الحيوانيّة والمختلطة بها البعيدة من حرم الصّدر المنشرح بالاسلام المحتاجة فى سيرها الى مكّة القلب الى ركوب القوى الحيوانيّة، وهيّج الله بعد الاسماع جميع القوى الانسانيّة الّتى هى افراد الانسان فى العالم الصّغير واتوا الى القلب وصاحبه وكان الحاضرون حول حرم الصّدر وبيت القلب مشاة فى مجيئهم لعدم اختلاطهم بالقوى الحيوانيّة وعدم احيتاجهم الى ركوبها، وكان المتباعدون عن الحرم والبيت راكبين ومختلطين بالقوى الحيوانيّة ولذلك كان الحجّ ماشياً لاهل الحرم افضل ويتدرّج الى الفعليّة القوى المكمونة الغير الخارجة من القوّة الى الفعل، وبعد الخروج من القوّة الى الفعليّة تأتى الى بيت الله وتطوف حول القلب مشاةً وركباناً.