الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } عطف على مجموع الى الّذى حاجّ ابراهيم او على الموصول المجرور بالى واشارة الى وجهٍ آخر لاخراج المؤمن من ظلمات حجاب العلم الى نور العيان، او عطف على قوله اذ قال ابراهيم على ما نقل انّه قال بعد قول نمرود انا أحيى وأميت انّ احياء الله بردّ الرّوح الى بدن الميّت فقال نمرود: وهل عاينته؟ - فلم يقدر ان يقول: نعم، فسأل الله بعد ذلك فى الخلوة وقال { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } حتّى أجيب به نمرود { قَالَ } الله { أَوَلَمْ تُؤْمِن } اولم تذعن بانّى اقدر على ذلك وافعل ذلك فى الآخرة؟ - { قَالَ بَلَىٰ } اذعنت بذلك وايقنته { وَلَـكِن } اسأل ذلك { لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } بالعيان بعد البيان، اعلم انّ الظّنّ كما سبق يطلب العلم بالمظنون والعلم يطلب الشهود والعيان، والعيان يجذب التّحقّق ويحرّك كلّ صاحبه ولا يدعه يسكن عن الطّلب حتّى يوصله الى ما فوقه، فقال: ابراهيم (ع) بعد العلم بذلك: انّ علمى يهيّجنى ويجعل قلبى مضطرباً فى طلب العيان فأطلب العيان ليطمئنّ قلبى { قَالَ فَخُذْ } الفاء جزائيّة لشرطٍ مقدّرٍ يعنى ان اردت ذلك فخذ { أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ } جمع الطّائر او اسم جمع له كصحب وصاحب { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } حتّى لا يلتبس عليك قرئ بضمّ الصّاد وكسرها من صار يصور وصار يصير بمعنى أمال وبضمّ الصّاد وكسرها وشدّ الرّاء من صرّ مشدّد الرّاء من باب نصر وضرب، وبفتح الصّاد وشدّ الرّاء وكسرها من التصرية والجميع بمعنى الجمع فاقتلهنّ وقطّعهنّ ومزّجهنّ وجزّئهنّ { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ } من الجبال العشرة، وقيل: كانت الجبال اربعة وقيل كانت سبعةً { مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً } اتيان سعى او هو مفعول مطلق من غير لفظ الفعل او هو حالٌ بمعنى ساعياتٍ.

اعلم انّه قد اختلف الاخبار فى سبب سؤال ابراهيم (ع) ذلك؛ ففى بعضها انّه لمّا رأى ملكوت السّماوات والارض رأى جيفةً على ساحل البحر نصفها فى البحر ونصفها فى البرّ تأكلها سباع البحر وسباع البرّ ثمّ يحمل بعض السّباع على بعض فيأكل بعضها بعضاً فتعجّب ابراهيم (ع) وسأل ذلك، وفى بعضٍ انّ الله أوحى الى ابراهيم (ع) انّى متّخذ من عبادى خليلاً ان سألنى احياء الموتى أجبته فوقع فى نفسه أنّه ذلك الخليل فسأل ذلك ليطمئنّ انّه ذلك الخليل، وقد مضى وجه آخر انّ نمرود قال: هل رأيت احياء الميّت بردّ الرّوح الى بدنه؟ - فسأل ذلك من الله، واختلفت الاخبار فى تعيين الطّيور؛ ففى بعضها أخذ ابراهيم نسراً وبطّاً وطاووساً وديكاً، وفى بعضٍ انّه اخذ الهدهد والصّرد والطّاووس والغراب، وفى بعضها الدّيك والحمامة والطّاووس والغراب، وفى بعضها: الدّيك والطّاووس والوزّة والنّعامة، وقد اختلف الاخبار ايضاً فى كيفيّة مزجها وتجزيئها؛ وفى بعض الاخبار: هذا تفسيره فى الظّاهر وتفسيره فى الباطن: خذ اربعةً ممّن يحتمل الكلام فاستودعهنّ علمك ثمّ ابعثهنّ فى اطراف الارضين حججاً على النّاس، واذا اردت ان يأتوك دعوتهم بالاسم الاكبر يأتونك سعياً باذن الله، واختلاف الاخبار فى تعيين الطّيور وكيفيّة قتلها ومزجها وتجزيتها ودعوتها واحيائها، واختلافها فى عدد الجبال واشارتها الى بعض وجوه التّأويل يدلّ على انّ ليس المراد من هذه الحكاية ظاهر القصّة فقط بل كان ظاهرها مراداً للتّنبيه على باطنها وانّ المقصود من الطّيور الاربعة الشّيطنة والشّهوة؛ والغضب والحرص المتولّد منهما، او طول الامل المتولّد منها فانّهما متلازمان فانّها امّهات جنود النّفس والجهل، والمراد بقتلها اماتتها عن الحياة النّفسانيّة وباحيائها احيائها بالحياة العقلانيّة حتّى تصير من جنود العقل فانّ الطّاووس مظهر للشيطنة المقتضية للانانيّة الباعثة للتجلّى كلّ آن بلونٍ على نفسه وعلى غيره والدّاعية لتعجيب نفسه وغيره، والدّيك للغضب، والحمام للشّهوة، والبطّ للحرص، ولمّا كانت هذه الصّفات تظهر من طيور اُخر ايضاً اختلف الاخبار فى تعيين الطّيور وقد ذكر فى تعيين الصّفات وتأويل الطّيور نظماً ونثراً وجوه غير هذا، والتّعبير بالطّيور مع انّ فى الدّوابّ ما هو مظاهر الصّفات بل هى اشدّ ظهوراً فى بعض الدّوابّ من الطّيور لانّ النّفس وجنودها لكونها كشجرةٍ خبيثة اجتثّت من فوق الارض مالها من قرارٍ لا ثبات لها على شيءٍ بل هى كالطّير كلّ آنٍ على غصنٍ فبالشّيطنة تعرض نفسها على نفسها وعلى غيرها كلّ ساعة بلونٍ وصفةٍ، وبالشّهوة تتمنّى كلّ آنٍ مشتهى، وبالغضب يعضّ كلَّ حين على سليم، وبالحرص والامل يتبع كلّ آنٍ مأمولاً، وبعد القتل يتبدّل الاوصاف وتصير من جنود العقل منقادة مطيعة كلّما دعاها العقل يسرعن فى الاجابة.

السابقالتالي
2