الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق


{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ }

{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } جواب لسؤالٍ كأنّه قيل: ان كان هو الواحد الّذى لا ثانى له القهاّر الّذى لا انانيّة لشيءٍ معه فما هذه الكثرات المشهودة؟ - فقال: انزل من السّماء ماءً فظهر الكثرات فلا انانيّة ولا ظهور لشيٍ منها الاّ بذلك الماء الّذى هو فعله بل هو هو لا غير والمقصود تمثيل ظهور الكثرات من امر واحد هو فعل الله وقوامها بذلك الامر بنزول الماء الّذى هو حقيقة واحدة من الجهة الواحدة الّتى هى السّماء وتكثّره بتكثّر الاودية وظهور الزّبد الغير النّافع عليه { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } نسبة سالت الى الاودية مجاز { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً } مرتفعاً على السّيل { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ } ومن الفلزّات الّتى يوقد النّاس عليها النّار حال كونها فى النّار { ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ } كما يصاغ من الدّهب والفضّة وغيرهما { أَوْ مَتَاعٍ } ما يتمتّع به كالاوانى وآلات الصّنائع وغيرها { زَبَدٌ مِّثْلُهُ } مثل زبد الماء يعنى انّ الزّبد الغير النّافع لا اختصاص له بالماء والسّيل بل يكون فى الجوامد والفلزّات الّتى تذاب بالنّار، والمقصود انّ الباطل لا اختصاص له بالتّعيّنات الامكانيّة الّتى هى كزبد الماء بل النّفوس البشريّة الّتى هى كالفلزّات فى شدّة تراكمها وصلابتها تتحمّل زبد باطل الاهوية { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ } يعنى انّ مثل ظهور الحقّ واختلاطه بالباطل مثل نزول الماء واختلاطه بالزّبد فالممثّل له بحسب مراتب الوجود يحتمل وجوهاً وكذا بحسب مراتب العلم اى الوجود الّذهنىّ. فنقول بحسب التّطبيق على الممثّل له، انزل من سماء الاسماء ماء المشيّة فسالت اودية المهيّات قدرها فاحتمل الماء السّائل فى اودية المهيّات زبد التّعيّنات والتّكثّرات، فامّا الماء الّذى هو حقيقة متحقّقة فيبقى، وامّا الزّبد وان كان ساتراً لوجه الماء ظاهراً فى الانظار دون الماء بحيث لا يدرك القاصرون فى الادراك الاّ ذلك الزّبد والتّعيّنات حتّى قالوا: انّ الوجود اعتبارىّ صرف وانّ المهيّات اصيلة فى التّحقّق فهو باطل مضمحلّ متلاشٍ كلّ شيءٍ هالك الاّ وجهه، وانزل من سماء المشيّة ماء وجودات الاشياء فسالت اودية المهيّات الى الآخر، وانزل من سماء العقول ماء وجود النّفوس وما دونها فسالت اودية النّفوس وعالم المثال وعالم الطّبع بقدرها الى الآخر، وانزل من سماء عالم المثال ماء وجود عالم الطّبع الى الآخر، هذا فى الكبير، وامّا فى الانسان الصّغير فنقول: انزل من سماء الارواح ماء الحياة فسالت اودية المدارك الحيوانيّة والمراتب النّباتيّة الى مقام الطّبع فاحتمل السّيل زبد الاخلاق الرّذيلة والاهوية الرّديّة والافعال الذّميمة كما انّ الاخلاق الحسنة والاشواق الآلهيّة والافعال المرضيّة متحقّقة بذلك الماء، وامّا بحسب العلم والذّهن وهو عين وخارج بوجهٍ فنقول: انزل من سماء الولاية ماء النّبوّة والرّسالة فسالت اودية القلوب والصّدور بحسبها فبعض بحسب استعداد الاتّصاف بالنّبوّة والرّسالة وبعض بحسب استعداد قبول احكامها فاحتمل السّيل زبد مقتضى الاهواء من الآراء الباطلة والبدع العاطلة المختلطة بمرور الازمان بأحكام الرّسالة والنّبوّة ومنه الزّيادة والنّقيصة والتّحريف فى الكتاب الآلهىّ، او انزل من سماء النّبوّة ماء الرّسالة او من سماء الرّسالة ماء الاحكام الآلهيّة، او انزل من سماء الرّوح ماء العلم فسالت اودية القلوب والصّدور فاحتمل السّيل زبد مداخلة الاهواء فى العلم، او انزل من سماء القلب ماء العمل فسالت اودية الصّدر { فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً } مرميّاً يرمى به السّيل { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ } لانتفاع اهلها { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } كرّر ذكر كون الآية مثلاً تأكيداً وتنبيهاً على انّها بظاهرها ليست مقصودة ومنظوراً اليها بل المراد بيان حال الحقّ والباطل بالتّمثيل بأمرٍ حسّىٍّ.