{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ } قرئ بفتح السّين وضمّها من سعده الله بمعنى اسعده { فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } الاستثناء هنا باعتبار المبدأ كما سبق او باعتبار المنتهى لكنّ المراد بالجنّة جنّة الدّنيا كما فى اخبارنا، فالمعنى { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } ان يخرجوا منها الى جنّات المأوى ومقام الرّضوان ويدلّ عليه التّقييد بدوام السّماوات والارض فانّها باقية فى الجنّات الدّانية، وامّا جنّات المأوى فليس فيها سماء ولا ارض ليس عند ربّنا صباح ولا مساء ويدلّ عليه ايضاً قوله { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } فانّهم ان خرجوا منها لا الى مثلها او ما فوقها كان العطاء مجذوذاً لا محالة. شرح فى عوالم البرازخ والمثال والآخرة اعلم، انّ الانسان من اوّل استقرار نطفته ومادّة بدنه فى الخلع واللّبس والموت والبعث فله فى كلّ آنٍ موت وحشر وخلع لصورة ولبس لاخرى الى آخر حياته الدّنيويّة واوّل مماته الطّبيعية، لكنّه لمّا كان بنحو الاتّصال التّدريجىّ فى عالم واحد طبيعىّ خصوصاً بعد تولّده الى آخر عمره ولا يظهر على اهل الحسّ ظهوراً غير مغفول عنه ما سمّوه فى الشّريعة المطهّرة موتاً وحشراً، ويذهل اهل الحسّ عن تبدّله وخلعه ولبسه مع انّه مشهود معلوم لكلّ احد من حيث انّه يشهد انّ النّطفة اضعف جماد ويعلم انّه مادّة البدن ثمّ يراها حيواناً ثمّ انساناً صبيّاً ثمّ مراهقاً ثمّ شابّاً وكهلاً وهرماً، لكن خلعه البدن وانتقاله الى عالم آخر لمّا كان من عالم الى عالم ومن مادّة طبيعيّة الى صورة اخرويّة مجرّدة ودفعة لا تدريجاً صار ممتازاً عمّا قبله منظوراً اليه مسمّى بالموت والارتحال كما انّ خروجه من رحم امّه وانفصاله منها لمّا كان دفعة وانتقالاً من عالم الى عالم وخروجاً من مضيق الرّحم وظلماته الثّلاث صار ممتازاً منظوراً اليه مسمّى بالولادة؛ وبعد خروجه من بطن الدّنيا ورحم غلاف البدن ومشيمة اغشية الاهواء، ولادته فى الآخرة له حالات وانتقالات وفى كلّ انتقال موت وحياة وخلع ولبس وقبر وبعث. فاوّل حالاته الاماتة التّامّة والغشى العامّ الحاصل بالنّفخة الاولى ونفخة الاماتة ويمكث فى تلك الحالة ما شاء الله كما اشير اليه فى اخبارنا، وبعد ما يبعث من تلك الحالة بالنّفخة الثّانية ونفخة الحياة له حالات وانتقالات من صورة الى صورة بحسب ما اكتسبه فى الدّنيا من الاعمال والاخلاق، فان كان من اهل الشّقاوة يتقلّب فى الصّور الموذية والنّار الدّانية الى ان ينتهى الى نار الآخرة وان كان من اهل السّعادة وكان عليه شوب من الاعمال السّيّئة والاخلاق الرّذيلة يتقلّب فى الصّور المؤذية الى ان يتخلّص منها الى الصّور البهيّة، وان لم يكن عليه شوب من ذلك يتقلّب فى الصّور البهيّة الى ان ينتهى الى جنان الآخرة وجنّة المأوى ويسمّى عالم التّقلّبات برزخاً بين عالم الطّبع وعالم الآخرة وفى هذا العالم يكون ترقّيات وتنزّلات فى الآخرة، ونصوص الآيات والاخبار تدلّ على ذلك، وقرّره العرفاء الشّامخون والصّوفيّة المكاشفون والعقل لا يأباه فلا اعتناء بما قاله بعض المتفلسفة من عدم التّرقىّ والتّنزّل بعد الموت بناء على انكار عالم البرزخ والمثال او على انقطاع المادّة والاستعداد وانّ التّرقّى والتّنزّل لا يكونان الاّ بالمادّة والاستعداد.