الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ }

فهذه الآية إشارة إلى مطلبين:

المطلب الأول

أنّ سبب إعراض أكثر الخلق عن اكتساب المعارف الإلهيّة، واقتناص الحقائق العقليّة، إيثارها الحياة الدنيويّة وشهواتها على الآخرة وخيراتها، وذلك لاستيلاء الدواعي الجسمانية - من القوى الوهميّة والشهويّة والغضبيّة - على القوّة العاقلة، فبحسب تسلّط القوّة الجسمانيّة على القوّة العقليّة، تكون قوّة الرغبة إلى الدنيا وشدّة النفرة من الآخرة.

ولا يخفى عليك، أنّ دنياك ليست إلاّ حالتك قبل الموت، من جهة استعمال آلة الحسّ والحركة في جلب المنافع البدنيّة، ودفع المضارّ الجسمانيّة بقوّتي الشهوة والغضب، وآخرتك ليست إلاّ حالتك بعد الموت، وقطع علاقتك عن هذا البدن المظلم، من جهة استعمال المشاعر الأخرويّة - من السمع والبصر وغيرهما - حسبما يناسب أعمالك وأفعالك - وشرح ذلك ممّا يطول -.

- وبالجملة - كلّ من غلب عليه الميل إلى المزخرفات الدنيويّة، لا بدّ وأن يكون أعمى القلب عن إدراك الأمور الأخرويّة، بعيداً عن تذكّر الآيات الإلهيّة، ولذا لا ينفع التذكير والنصح لهم - كما أشير اليه سابقا -.

المطلب الثاني

في أنّ نيل السعادة الأخرويّة، ودرك اللذات الآجلة التي تنال بمشاعر ذلك العالم، أجلُّ وأدْوَم

والدليل على هذا المطلب أمور:

أوّلها: أنّ كلّ واحد من اللذّات العاجلة - كالفوز بالشهوات البهيميّة، والرياسات الحيوانيّة - لا تخلو من نقائص جمّة، كشوب مكروه، ووصمة انقطاع، وتقضّي وتعقّب إملال إمّا في ذواتها، أو في الخصائص الحاصلة منها.

الأوّل: كما في تقضي الشهوة وداعية الغضب فإنّهما سيزولان سريعا.

والثاني: كالملك، فإنّ الملك وإن لم يمل بذاته، لكن لا ينفكّ عن الإملال في المقاصد التي يطلب لأجلها الملك - وذلك ظاهر -.

واللذّة الأخرويّة بالخلاف في جميع ما ذكر لبراءتها وخلوصها عن شوب مكروه أو وصمة نفاد، أو تعقّب إملال، لا في ذاتها ولا فيما يصحبها.

وثانيها: أنّ كلّ مرتبة نيلت من لذات الدنيا لن يقنع المطمئن إلى زخارفها دون البدار إلى الإحاطة بما فوقها، والتشوّق إلى الوصول إلى ما وراءها، مع استحالة الوصول إلى لذّة لا تكون وراءَها لذّة فوقها، وهذه بخلاف لذّة الآخرة، إذ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، ولكلّ واحد من أهل الآخرة ما تبلغ إليه همّته ويصل اليه قصده وشهوته.

وثالثها: أنّ اللذّة الدنيويّة مشتركة فيما بين الناس والبهائم والديدان والخنافس، واللذات الأخرويّة مشتركة فيما بين أفاضل من الناس من الأنبياء والأولياء والسعداء وأفاضل الملائكة.

ورابعها: أنّ هذه اللذات الدنيويّة، لو كانت خيرات حقيقيّة وسعادات، لكانت كلّما كانت أكثر، كان الفائز بها أكمل وسعادته أكثر، ومعلوم أنّه ليس كذلك، لأنا لو فرضنا رجلا من العقلاء لا همّ له إلاّ الأكل والشرب والوقاع، وكان مدّة عمره مقصوراً على تحصيل هذه المهمّات، لكان عند العقلاء منسوباً إلى الخسّة والدناءة، والى أنّه كالبهيمة.

السابقالتالي
2 3 4