الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ }

لما فيها من الشواهد الجليّة والخفيّة على معرفة ذاته وصفاته، ولهذا عظّم الله أمر السماء والنجوم في كتابه المجيد، فأقسم بهما في كثير من الآيات كقوله:وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } [البروج:1] وقوله:وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } [الشمس:1 - 2] وقوله:فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } [التكوير:15 - 16] وقوله:وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } [النجم:1] وقوله:فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [الواقعة:75 - 76] كلّ ذلك تنبيها على أنّها صومعة القدّوسين، ومعبد الروحانيّين، ودلائل صُنع خالق السموات والأرضين، وآيات عظمة أوّل الأولين، هو الذي نوَّرها وصوَّرها، ودوَّرها ورقَّصها في دوام إشراقاته عليها، وشوقها إلى مزيد إفاضاته ورسالاته إليها، وحرّكها بالتسبيح والتهليل، وهداها التوسّل إلى الربّ الجليل.

فما من شخص من أشخاص السماء إلاّ وله نفس وعقل يحرّكانه شوقاً وطرباً إلى حضرة الباري ربّ الملأ الأعلى، وما من جرم كُريّ نوراني إلاّ وفيه شواهد وآيات عظيمة دالّة على عظمة مبدعها ومُنْشِئها، ولهذا كرّر الله ذكرها، وأشار إلى شواهدها وآياتها الدالّة عليه سبحانه في مثل قوله:إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [البقرة:164] - الآية -، وقد مدح الناظرين فيها، وأثنى على المتفكّرين في خلقها بقوله:وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [آل عمران:191].

وقال رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ويل لمن قرأ هذه الآية ثمّ مسح به سبلته " أي تجاوزها عن غير فكر وذكر.

وذمّ المعرضين عن التدبّر فيها فقال:وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [الأنبياء:32].

وقال:أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ } [الأعراف:185].

ولا يتوهّمنّ أحد أنّ معنى النظر إلى عالم ملكوت السماء بأن يمتّد البصر إليه فيرى زرقة السماء وضوء الكواكب وصور البروج، فإنّ البهائم تشارك الإنسان في هذا النظر، فإن كان هذا هو المراد فلِمَ مَدح الله به إبراهيم - على نبيّنا وأله وعليه السلام - في قوله:وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ } [الأنعام:75]. بل المقصود منه التفطّن لما فيها من الدلائل والآيات العجيبة الشأن، والشواهد العظيمة البرهان المنبئة عن أزليّة الحقّ الأول، ووجوب وُجُوده، وكمال قدرته وإرادته، وتمام حكمته وَجُودِهِ.

فصل

وجوه دلالات وجود السماء على وجود الباري جلّ مجده

أمّا دلالتها على وجود الباري جلّ اسمه، فمن وجوه: من حيث الوجود، والإمكان، والجسميّة، وطلوع الكواكب وأفولها - إلى غير ذلك - وككونها مركّبات الوجود من مادّة وصورة، وككونها ذوات نفوس لها إرادة وعلم وصلاة وتسبيح.

أمّا الأوّل: فلأنّ وجودها الممكن هو المحوج إلى السبب، إذ الإمكان - لكون معناه سلب ضرورة طرفي الوجود والعدم بالنظر إلى الذات المتّصفة به - هو علّة الحاجة إلى المؤثّر، لأنّها لمّا استوى طرفاها امتنع وجودها إلاّ لمرجّح - وهو الله تعالى -.

أمّا أنّ الممكن ما يستوي طرفاه، فلاستحالة أن يكون طرفيه أوْلى به لذاته، لأنّه حينئذ إن أمكن طريان الطرف الآخر، فهو إمّا بسبب، أو لا بسبب، فإن كان الأوّل، فتفتقر الأوّليّة إلى عدم ذلك السبب، وإن كان الثاني، فيلزم إمكان ترجيح المرجوح من غير مرجّح - وهو باطل -.

السابقالتالي
2 3 4 5 6