الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }

قرأ الحسن " الأنجيل " - بفتح الهمزة -، والأمر فيه هيّن لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب، بخلاف أمر " البَرطيل " " والسَكين " فيمن رواهما بالفتح.

وقرأ " رآفة " على وزن فعالة.

و " التقفيّة ": جعل شيء إثر شيء على نهج الاستمرار، ولهذا قيل لقواطع الشعر " قوافي " إذا كانت تتبع البيت على أثر بيت مستمراً في غيره على منهاجه.

و " الرهبانية " أصلها من الرهبة والخوف، يوصف بها النصارى لترهّبهم بعد موت عيسى (عليه السلام) في الجبال فراراً من الفتنة في الدين، لظهور الجبابرة على مؤمني ذلك الزمان، واخلاصاً لأنفسهم في عبادة الرب عند التفرد عن الخلق، فهي " الفَعلة " المنسوبة إلى الرَهْبان - بالفتح -، وهو الخائف، " فعلان " من " رهب " ، كخشيان من خشي، وقرئ: " ورُهبانية " بالضم منسوبة إلى " الرُهبان وهو جمع " راهب " ، كرُكبان جمع راكب، وهي عبادة مخصوصة بالنصارى، لقول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): " لا رهبانية في الإسلام " وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): " رهبانية امتي الحج والجهاد ".

وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر، أي: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، ويجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها، والجملة بعدها صفة لها في محل النصب، والمعنى: ثم اتبعنا بالإرسال على آثار المذكورين كنوح وإبراهيم ومن أرسلنا إليهم أو من عاصرهم من الرسل برسل آخرين، أي: اتبعنا رسولاً بعد رسول، وقفيّنا سابقاً بلا حق حتى انتهى الأمر إلى عيسى بن مريم بعدهم، فارسلناه رسولاً وأعطيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه من الحواريين وأتباعهم للتراحم والتعاطف بينهم رأفة ورحمة، بأن أمرهم الله بهما ورغّبهم فيهما، أو خلق في قلوبهم الرأفة والرحمة.

وإنما مدحهم على ذلك - وان كان من فعله - لأنهم تعرضوا لهما وابتدعوا رهبانية لم يكتبها عليهم، وهي خصلة من العبادة يظهر فيها معنى الرهبة، إما في كنيسة (شعشعة - شعثة - ن)، أو تَوَحُّش عن الخلق، أو تَفَرُد عن الجماعة، أو غير ذلك من الأمور التي تعلق بنسك صاحبه.

وقيل: إن الرهبانية التي ابتدعوها هي رفض النساء واتخاذ الصوامع - عن قتادة -. وعلى تقدير عطفها على ما قبلها يكون المعنى: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم. بمعنى: وفّقناهم للتراحم بينهم، ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب، والاستثناء منقطع، أي ما فرضناها تعبّدناهم بها " ، حتى يكون مشتملاً على نفي الإيجاب والندب المستلزمين لمطلق الراجحية والتقرب، وهذا وان كان مخالفاً لقوله: { ٱبتَدَعُوهَا } ، لكن يوجه بأن يقال: معناه: ولكنهم ابتدعوها ثم نُدبوا إليها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6