الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }

عطف سبحانه على ما تقدم من ذكر المرسلين مجملاً، بذكر نوح وإبراهيم - على نبينا وعليه السلام - مفصلاً، وإنما خصّهما بالذكر، وذكر قصتهما، لفضلهما وكونهما أبوي الأنبياء، كما يدل عليه قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } ، فإن الأنبياء كلهم من نسلهما وذريتهما - عن ابن عباس -.

الكتاب: الخط بالقلم. يقال: كتب كتاباً وكتابة.

ثم أخبر تعالى عن حال الذرية بحسب النشأة الأخروية، فقال: فمنهم - أي فمن الذرية، أو من المرسل إليهم -، لدلالة ذكر الإرسال عليه - مهتدٍ - إلى طريق الحق، - ومنهم فاسق - عن أمر ربه، والغلبة للفساق.

مكاشفة

إعلم أن لوجود كل من الصنفين مصلحة وخيراً تخصّه وتليق به، لئلا يلزم أن يكون الخير قليلاً والشر كثيراً في أشرف أنواع الكائنات.

فليس لأحد أن يقول: أكثر أفراد الإنسان يغلب عليهم الشر على ما دلت عليه الآية، ولأن مناط تحصيل السعادة والشقاوة للنفس الآدمية إنما هو استعمال قواها الثلاثة: - الإدراكية، والشهوية، والغضبية - إذ هي مبادئ الأفاعيل والانفعالات، ومن تكرر الأفاعيل والانفعالات تحصل أخلاق ومَلَكات هي المنتجة للسعادة أو الشقاوة في العاجل والآجل، والغالب على أكثر الناس - على ما نراه - أضداد الأخلاق الحسنة، من الجهل، وغلبة الشهوة، واستيلاء حب الدنيا، وميل الرياسة، والبخل، والحسد، والكِبر، والرياء، وأشباهها. وما يترتب عليها وينبعث عنها من الفسوق والمعاصي، فيلزم كونهم من الأشرار المردودين عن رحمة الله، على أن رحمته وسعت كل شيء، فما معنى كونه تعالى محض الرحمة التي لا جهة شَرِّيّة فيها؟ وما معنى قول الربّانيين من الحكماء: " إن الخير مرضيٌّ والشر مقضيٌّ "؟

لانّا نقول: لا بد أن يعلم أن الخُلُق الذي لا نجاة معه في الآخرة، هو صفة واحدة للنفس من حيث جزؤها العلمي، وهي ضَرْبٌ من الجهل، وهو ما يكون مُرَكباً مع الاعتقاد الراسخ المضاد للحق، وأما من حيث جزؤها العملي، فليس كل رذيلة توجب الحرمان عن الغفران، بل الرذائل التي رانت على القلوب وصيّرتها فاسدة الجوهر، كجرم المرآة التي أحاطت بها النداوة ظاهراً وباطناً، وغاصت فيها وأفسدتها سطحاً وعمقاً، وكون أكثر الناس فسّاقاً ذوي صفات ذميمة لا يستلزم كونهم مطرودين من رحمة ربهم، بل كما أن الجهل المركّب الراسخ المضاد لليقين، الذي يوجب الشقاوة الأبدية، نادر كوجود اليقين الذي يوجب خيراً كثيراً وقسطاً وافراً من السعادة، والجهل البسيط الذي لا يضر في المعاد عامُّ فاشٍ في هذا النوع، فكذلك حال القوتين الأخريين.

فالبالغ في فضيلة العقل والخلق - وان كان نادراً -، كالشديد النزول فيهما، لكن المتوسطين على مراتبهم أغلب وأوفر، وإذا ضم إليهم الطرف الأعلى، كانت لأهل النجاة غلبة عظيمة.

السابقالتالي
2