الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ }

" المصيبة في الأرض ": نحو الجدب، وقلة النبات، وآفات الزروع ونقص الثمار، وتلف الحيوانات، وموت الإنسان. " والمصيبة في الأنفس " نحو الأدواء والأمراض والأوجاع والثُّكْل بالأولاد والموت وغيرها من الشرور والآفات الخارجية والداخلية، وربما كان بعض أنواع الوجودات والخيرات لطائفة من الناس، - هي بعينها -، مصائب وآفات لجماعة أخرى منهم بالاستجرار.

إلاَّ في كتاب - يعني: إلاَّ وهو مُثْبَتٌ مذكور في لوح محفوظ من الألواح العالية المحفوظة عن التحريف والفساد والبطلان.

من قَبْلِ أن نبْرَأَها - يعني: المصائب، أو الأرض، أو الأنفس.

ان ذلك - أي: إثبات ذلك على كثرته وتفصيله هيّن على الله سهل يسير، وان كان عسيراً على غيره.

مكاشفة

إعلم أن حقائق الأشياء مسطورة أولاً في العالم المسمّى باللوح المحفوظ، بل في قلوب الملائكة المقرّبين المحفوظين بحفظ الله وتبقيته وحراسته إياهم عن الخلل والنقصان والنسيان، وكما أن المهندس يُسَطّر صورة أبنية الدار في نسخة، بل في خياله أولاً، ثم يُخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة المسطورة أولاً في الخيال، - سطراً لا يشاهد بهذه العين -، فكذلك فاطر السموات والأرض، كتب نسخة العالم من أوّله إلى آخره في العالم الأعلى العقلي، ثم النفسي، ثم الخيالي، ثم أخرجه على وفق تلك النسخة إلى الوجود الحسي المدرك بإحدى الحواس.

فعلمه تعالى بالأشياء الكائنة على هذا الترتيب بالوجه العقلي، بخلاف علمنا الانفعالي بها، الذي يحصل منها على عكس هذا الترتيب، فإن العالم الموجود الذي خرج إلى الوجود بصورته، تتادّى منه صورة أخرى إلى الحواس، ثم إلى الخيال، ثم إلى النفس، ثم إلى العقل المنفعل المتحد بالعقل الفعّال. فترتيب الصعود العَوْدي، على عكس ترتيب النزول البَدْوي، فالحاصل في العقل الإنساني، موافق للعالم الموجود قبله على التعاكس في أنحاء الحصول.

وتوضيح ذلك: ان من ينظر إلى السماء والأرض ثم يغض بصره، يرى صورة السماء والأرض في خياله كأنه ينظر إليهما، ولو انعدمت السماء والأرض في أنفسهما كأنه شاهدهما أو ينظر إليهما. ثم يتأدى من خياله أثر إلى العقل، فتحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال، فالعالم الموجود في اللوح العقلي، وهو سابق على وجوده في القدر والصور المثالية، وهو سابق على وجوده الجسماني، ويتبعه وجوده الخارجي الكوني، ويتبع وجوده الخارجي وجوده الخيالي، ويتبع وجوده الخيالي وجوده العقلي - أعني وجوده في القوة العاقلة الإنسانية المتحدة بالعقل الفعّال -، وكما أن تلك الصور ومحالّها نازلة من الله تعالى في سلسلة البَدْو، فكذلك صاعدة إلى الله تعالى في سلسلة العَوْد، فالله تعالى منه البَدْوُ وإليه الرُّجعىٰ.

ثم لمّا كانت بعض هذه الموجودات روحانية عقلية، وبعضها مثالية، وبعضها حسيّة، فكان الموجود الصادر من الحق عقلاً، ثم نفساً، ثم حسّاً، فدار على نفسه فصار حسّانياً، ثم نفسانياً، ثم عقلانياً.

السابقالتالي
2 3 4 5