الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

قيل: يحييها بالنبات بعد يَبْسها وجدوبتها، فكذلك يحيي قلب الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالضلال والكفر. وقيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وإنه يحييها كما يحيي الغيثُ الأرضَ. وقيل: معناه: إن الله يلين القلوب بعد قسوتها بالألطاف والتوفيقات.

قد بينّا لكم الآيات -: من شواهد العقل والنقل، كالحجج الواضحات، والدلائل الباهرات - لعلكم تعقلون -: فتعلمون بمقتضاها وترجعون إلى العبودية التامة.

مكاشفة

إعلم أن مرجع هذه الأقوال الثلاثة إلى شيء واحد في المثال والممثل له جميعاً، فإن الأرض مثال للنفس الناطقة الإنسانية، المعبّر عنها بالقلب الحقيقي، لتقلّبها بالأحوال، لا الجسم الصَنَوبري الموجود في الحمير والبغال، وموتها مثال لكونها هيولانية ليس فيها شيء من المعارف والعلوم الحقّة التي بها تستتم حقيقة الإنسان، أو بتوسطها وإعدادها يستعد للحياة العقلية.

والآيات المبينة له، إشارة إلى المقدمات اليقينيّة التي يتوسل بها في تحصيل الكمال العقلي، وهو صيرورته عقلاً وعاقلاً بالفعل، بتأييد من الحق الأول بواسطة بعض الملائكة العلاّمة الفعّالة للحقائق بإذنه تعالى.

وهذه الحياة العقلية هي التي وقعت الإشارة إليها بقوله:وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } [البقرة:154].عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [آل عمران:169 - 170]. وظاهر أن المراد من الحياة التي تكون عند الله، هي الحياة المعنوية دون الجسمية (الحسية).

والمراد من رزق الله: أن يكون عنده رزق المعارف والعلوم التي بها تتغذّى وتتقوّى الأرواح المقدسة، لا الأغذية الجسمية التي تنمو بها الأجسام المحسوسة، كما في قوله:وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [طه:131].

وإن أردت حقيقة المقال في بيان النفس الإنسانية ومراتبها في الاستكمال، وبلوغها إلى حد الكمال، فعليك بمطالعة ما بيّناه في معرفة النفس في كتاب " المبدأ والمعاد " ، فإنها من الغوامض التي قلّما يصل إليها - إلاّ من أيّده الله تعالى بنور الكشف والشهود -، ولا يذكر من علم النفس في كتب الحكماء إلا قدر يسير ومرتبة نازلة منه، مناسبة لمباحث الطبيعة وأحوال البدن، وذلك القدر اليسير أيضاً قرّة عين السالكين، وقد غفل عنه الجمهور كغفلتهم عن سائر المعارف الضرورية في سلوك سبيل الحق.

ومما يجب لا أقلّ على كل عارف (عاقل - ن)، أن يعرف من أحوال نفسه التي هي مرقاة إلى معرفة الله سبحانه، إنها جوهر ملكوتي من شأنها أن تعرف ربها، ويتقرّب إلى الله تعالى، ويعلم أن من الله مبدأها، والى الله منتهاها، إذا سلكت طريق الحق، واكتسبت المعارف الحقيقية والعلوم، ويعلم أنها غير البدن الذي أوّله نطفة مَذِرة وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بينهما حامل العذرة، ويعلم أيضاً أن جهلها موتها وهلاكها في الآخرة، - كما ذهب إليه كثير من الحكماء والعرفاء -، وان حياتها الأخروية عبارة عن وجود نور مستفاد هو مبدأ للتعقلات ومنشأ لفعل الخيرات، كا ان حياتها الدنيوية البدنية عبارة عن كونها منشأ الإحساس والتحريك، وهو نور يقذف من الحق الأول فيها فينفعل منه كما ينفعل من نور الشمس وجهُ الأرض، فأشرقت بها كما أشرقت الأرض بنور ربها، فعند ذلك تظهر بها الحقائق والماهيات التي ليست معقولة بذاتها، كما تظهر بضوء النهار الأجسامُ الأرضية المظلمة الذوات، المستنيرة بنور الشمس، وحينئذ يستعد للاتصال بالملأ الأعلى وعالم القُدس.

السابقالتالي
2 3