الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }

إن هذه السورة مشتملة على المقصد الأقصى واللباب الأصفى من كيفية ارتقاء العباد من حضيض النقصان والخسران إلى أوْج الكمال والعرفان، وبيان السفر إلى الله تعالى طلباً للقائه، والارتحال من أسفل السافلين وتحت الثرى في البعد والحرمان عن مجاورة الرحمن، إلى أوْج عوالي العليّين، وفوق السمٰوات العلى من قرب رب الإنس والجانّ، وخالق النيران والجنان.

فإن خلاصة دعوة العباد، ونقاوة سياقهم إلى الملك الجبّار، منحصرة في أقسام ستة: ثلاث منها كالدعائم والأصول المهمة، وهي تعريف الحق المسوق إليه المصمود له، وبيان الصراط المستقيم الذي يجب سلوكه للوصول إليه، وبيان الحال عند الوصول:

فالأول: هو معرفة المبدأ، والآخر هو معرفة المعاد، والأوسط هو معرفة الطريق.

وأما الثلاثة الأخيرة، فهي كالمعينة المتممة التي كالنوافل، والقُرْبُ الحاصل بها للعبد من الحق هو قُرْبُ النوافل، كما أن القُرْبَ الحاصل بالثلاثة الأوَل هو قُرْبُ الفرائض المشار إليه في الحديث المشهور.

فأحدها: تعريف السالكين إلى الحق تعالى، المجيبين دعوة العزيز الوهّاب، ولطائف تربية الرب لهم، ودقائق صنعه فيهم، لصفاء جواهرهم، وطهارة أعيانهم عن الخبث والشَّيْن، ونقاوة وجه مرآتهم عن الطَّبْع والرَّيْن، وتهيؤهم واستعدادهم لقبول صورة الحق، وتوصيف الناكبين عن الطريق، الضالين، وكيفية حلول غضب الله عليهم، وكيفية تنكيله بهم، لسوء استعداداتهم، وخبث جواهرهم وذواتهم، وتراكم الرَّيْن والطَّبْع على مرآتهم، والمقصود فيه إما التشويق والترغيب - كما في أحوال المحبوبين -، أو الاعتبار والترهيب - كما في أحوال المغضوب عليهم -.

وثانيها: حكاية افتضاح حال الجاحدين، وكشف عواقبهم، وتسفيه عقولهم، وتجهيلهم في تحرّيهم طريق الهلاك والبطلان بالمجادلة والمحاجّة على طريق الحق، والمقصود منه في جَنَبَة الباطل، الإفضاح للتحذير والتنفير، وفي جَنَبَة الحق الإيضاح للتثبيت والتقرير.

وثالثها: تعليم عمارة المراحل إلى الله تعالى، وكيفية أخذ الزاد والأهبة والاستعداد، والمقصود منه أن معاملة الإنسان مع أعيان هذه الدنيا، يجب أن تكون مثل معاملة المسافر مع أعيان مرحلة من مراحل سفره البعيد الذي يطلب به تجارة لن تبور.

فهذه هي المقاصد الستة المشتملة عليها والمنحصرة فيها سور القرآن وآياته، وهذه السورة الواحدة لغاية شرفها وفضلها عقلاً ونقلاً، حيث " روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " أن في المسبّحات آية أفضل من ألف آية يشتمل عليها وينحصر فيها جميع القرآن " ".

ولنشرع في استنباط هذه النفائس الشريفة، عن هذا البحر الخضيم بقوة العزيز الحكيم، ولْنُسَمّ كل واحد من المعارف الثلاثة القرآنية التي هي الأصول باسم يناسبه، كما فعله بعض أكابر العلماء، وقد وجدناه في بعض مصطلحات العُرفاء، وذلك للدلالة على أن هذه المعارف في درجات متفاوتة من الشرف والفضيلة، مع اشتراك الجميع في الخير والمنفعة، فأين معرفة ذات الحق وصفاته وأفعاله، من معرفة علف الدابة وسقيها في طريق السفر إليه.

السابقالتالي
2 3 4 5