الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

هذه صفة رابعة للقرآن، أي: منزّل من عند ربّ العالمين إلى أهل هذا العالَم، وإنّما وُصف بالمصدر، لأنّه من حيث هذا الوجود الكوني نزل منجَّما بحسب الدواعي الكونيّة والمصالح الخَلقيّة في الأوقات المعيّنة، فكأنّه في نفسه تنزيل لتعالي الباري القيّوم عن وصف التغيّر والتجدّد وكثرة الدواعي والإرادات.

وأمّا كيفيّة هذا التنزيل: فنقول في بيانها: إنّ الذات الأحديّة بحقيقة الصمدانيّة ممّا لا سبيل لأحد إلى إدراكها - سواء كان من الملائكة أو من الإناس - وغاية السبيل إليه لأهل الكَوْنين إدراك أفعاله وآثاره، وكلامه وكتابه عندنا من جملة أفعاله وآثاره - إلاّ أنّ أحدهما - وهو الكلام، من عالَم أمره، بل هو الأمر كلّه، لقوله تعالى:إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس:82] وأمره منزّه عن التجدّد والتضادّ لقوله:وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ } [القمر:50].

وثانيهما - وهو الكتاب - من عالَم خلقه، بل هو عالَم خلقه لاشتماله على التجدّد والتضاد لقوله تعالى:وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [الأنعام:59].

ولكلّ منهما منازل ومراتب، وكلّ واحدة من مراتب الكلام قضاء، وكلّ واحدة من مراتب الكتاب قَدَر، وأعلى مراتب القضاء قضاء محض ليس فوقه قضاء، وهو الكلام الإلهيّ المبدَع له في الحقيقة.

وأدنى مراتب القدر، " قدر محض " لا قَدَر تحته، وهو الكتاب الكوني الذي فيه كتابه أعمال أهل الشمال.

وكما أنّ كلام الله مشتمل على الآيات، وهي آيات الله الكبرى الواقعة في المواقف العقليّة المثاليّة -تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ } [البقرة:252] وكذلك كتابه المبين مشتمل على آيات وهي الآفاق والأنفستِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [يوسف:1] - وكل كلام إذا نزل وتشخّص يصير كتاباً، كما أنّ الأمر إذا نزل صار فعلا -كُنْ فَيَكُونُ } [البقرة:117] فالكتاب نايب الكلام، وأصل الكلام إنّما يراد لتصوير ما يتضمّنه باطن المتكلم في باطن المخاطب فيصير مثله، فإذا عجز المخاطب عن مسّ باطن المتكلّم - مسّ الخاتمِ للشمعة ليجعله بمثله في نقشه ورقشه - اتخذ بين الباطنين سفيراً من الظاهرين، إمّا رسولا هوائيّا متكّلما به، أو رسالة سطحية ناطقة بما فيها. فإنّ الهواء بتموّجه الصوتي على هيئة الحرفيّة كتاب بالقياس إلى ما فوقه - وهو نفَس المتكلّم -، وهو بعينه كلام بالقياس إلى ما تحته - وهو صحيفة الرسالة أو بسيط السماخ بهيئاتها الكتابيّة -.

فعلى هذا، كلّ واحدة من الذوات المفارقة والملائكة العقليّة التي هي علوم إبداعيّة وصور مجرّدة، كلام الله باعتبار، وقلمه باعتبار. وكلّ واحد من الجواهر الفعليّة والملائكة المدبرة كتاب الله باعتبار، ولوحه باعتبار.

وكذا الألواح القَدرّية والصحايف السماويّة، كلّ منها كتاب مشتمل على آيات الربوبيّة ودلائل القدرة، وهكذا صحيفة الأكوان وطومار حوادث الزمان، ودفتر الصور الجسمانيّة، كتاب فيه آيات الليل والنهار التي ينشر بعضها وينطوي بعض آخر ويظهر ويكمن، كما قال:

السابقالتالي
2 3