الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

كلّ ذلك يؤتى لهم جزاء بأعمالهم، فإنّ جزاء علومهم وتعقّلاتهم ليس الجنّة وما فيها، بل مشاهدة ذات الحقّ الأوّل وصفاته وأسمائه، وذوات العقول المقدسين، والملائكة المقرّبين وصافتهم وآثارهم.

وتحقيق ذلك: انّ اللذات تابعة للإدراكات، والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوّة وغريزة لذّة، ولذّتها في نيلها لمقتضى طبعها الذي خُلقت له، وألمها في فقدان ذلك عنها، ولذّة الغضب في التشفّي والإنتقام، ولذّة الشهوة في النكاح والطعام، ولذّة البصر في درك الأضواء والأنوار، ولذّة السمع في الأصوات المناسبة والألحان، ولذّة الوهم في الرجاء. وألَم كلّ منها في فقد ما يناسبه. فكذلك في قلب الإنسان قوّة تسمّى بالنور الإلهيّ لقوله:أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [الزمر:22].

وقد تسمّى بالروح الإلهي لقوله:فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [الحجر:29]. وهو غير الروح الحيوانيّ لكونه من عالَم الخلق، وهو من عالَم الأمر لقوله:قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء:85].

وقد تسمّى بالعقل النظري، وبالبصيرة الباطنة، وهو ممتاز عن ساير القوى والمشاعر، في أنّ مدركاته هي المعاني التي ليست متخيّلة ولا محسوسة، ولذّاته ونعمه في نيلها، وشقاوته وجحيمه في الجهل بها والجحود لها.

فهذه القوى قد خلقت وابدعت لكي تدرك حقايق الأمور كلّها، فمقتضى طبعها معرفة صور الأشياء العقليّة، من إدراك الحقّ الإله وملائكته، وإدراك خلْق العالَم، وافتقاره إلى خالِق مدبِّر حكيم موصوف بالصفِات الإلهيّة، وبها تحصل لذّته وسعادته، كما أنّ بمقتضى طبع ساير القوى تحصل لذّتها.

ولا يخفى على ذوي البصائر، انّ في المعرفة والحكمة لذّة تفوق ساير اللذّات، ومن لم يدرك انّ في الحكمة لذّة وفي تركها ألماً فذلك لأنّه لم يخلق بعد هذه الغريزة النورانيّة والبصيرة الباطنة في قلبه، فقد عُلم أنّ سعادة الجوهر العقلي من الإنسان في إدراك الحقايق العقليّة، وفيها نعيمه، فنعيمه لا يوجد في السماء ولا في الأرض، ولا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا في الجنّة ولا في النار. وبوجه يوجد في الجميع، إذ لكلّ واحدة منها حقيقة عقليّة، وصورة مفارقة يشاهدها العارف ويستلذّ بها في مرائي محسوساتها، ومظاهر قابليّاتها محتجبةً عن الأبصار، مختفية عن أنظار الأغيار، إلاّ أنّها لا تنكشف له حقّ الإنكشاف، ولا تتجلّى له كلّ التجلّي إلاّ بعد الإنقطاع التامّ عن الدنيا، والإنتزاع عن المادّة البدنيّة، فتتجلّى له حينئذ تجلّياً، ليكون انشكاف تجلّيها بالقياس إلى ما علمه كانكاشف تجلّي المرايا بلا حجاب بالقياس إلى أشباحها الخياليّة، بل المعرفة الحاصلة في قلبه هي بعينها تستكمل في حقّه، وتنقلب مشاهدة صريحة، كما أنّ نفسه المدبّرة لبدنه تنقلب في الاستكمال عقلاً مفارقاً، ولا يكون بين المشاهدة في الآخرة والمعلوم في الدنيا اختلاف إلاّ من حيث زيادة الكشف وتمام الوضوح كما في قوله:

السابقالتالي
2 3