الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }

في هذه الآية مسائل

المسألة الأولى: في معنى الأمر

قيل: " الأمر " ها هنا بمعنى الشأن { إِنَّمَآ أَمْرُهُ } أي: إنما شأنه، { إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً } ودعاه داعي حكمته ومصلحته إلى تكوينه { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ولا بأس عليك أن تحمل " الأمر " ها هنا على ما يرادف معنى الحكم الإنشائي والأمر التكويني، فإن الأمر من الله كباقي أقسام كلامه على ضربين:

أحدهما: ما هو بمعنى التكوين والإنشاء المطلق.

والثاني: هو بمعنى طلب الفعل من العبد، وهو الأمر التشريعي.

ومن القبيل الأول:يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء:69]كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة:65]كُونُواْ حِجَارَةً } [الإسراء:50].

ومن قبيل الثاني قوله تعالى:كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ } [النساء:135].

والمخاطب بالأمر التكويني والخطاب الإيجادي، لا يكون إلاّ ذوات الماهيات المجعولة، المستعدة لسماع قول الحق بآذانهم السمعية، الواعية المطيعة لأذان الحق وإذنه لهم وندائه عليهم بالدخول في دار الوجود، فسمعوا نداء الحق بقوله: " كن " وأطاعوا أمره، وقالوا: سمعنا وأطعنا، ودخلوا في دار رحمته وبلدة جوده ونعمته، كما قال مخاطباً للسموات والأرض:ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصّلت:11].

وأما المخاطب بالأمر التشريعي والخطاب التكليفي، فلا يكون إلاّ ضرباً من النفوس الإنسانية حين وجودها العنصري، وكونها الدنيوي وبلوغها النفساني وكمالها البدني.

وفي الأمر الأول، لا مجال للعصيان، لأنه الدين الفطري الإلهي الذي يستحيل التمرد عنه والمعصية فيه، وبهذا جرت سنة الله التي لا تبديل لها، وأما الأمر الذي أمر به عباده على ألسنة رسله وألواح كتبه، فمنهم من أطاع ومنهم من عصى، وبارتفاع الوسائط لا سبيل لأحد إلاّ القبول والطاعة.

ومثال هذه القاعدة، النفس الإنسانية التي خلقها الله مثالاً له ذاتاً وصفة، وجعلها سلّماً إلى حضرته، وصراطاً مستقيماً إلى جنابه، وحاملاً لسرّ ربوبيته وأمره ونهيه وكتبه ورسله وملائكته وعباده الصالحين والطالحين من الجن والإنس أجمعين.

فمن أراد أن يعرف ما ذكرناه، فلينظر إلى نفسه في أمره ونهيه وتكوينه بلا واسطة لسان ولا جارحة ولا مخلوق غيره، فهو على بيّنة من ربه في كماله، وقد خلقت أعضاؤه مسخرة لا تستطيع له خلافاً ولا عليه تمرداً، فإذا أمر العين للإنفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل للحركة تحركت، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم، وكذا سائر الأعضاء، فهي له من جهة أمثالها بمنزلة أجرام السموات والأرض لله تعالى في حركاتها وسكناتها.

وله جنود روحانية هي أقرب منزلة منه، وأسرع قبولاً لطاعته، وأشد سماعاً لأمره ونهيه، وهي قواه الإدراكية أولاً، وقواه التحريكية ثانياً، كل منهما على طبقات متفاوتة في الشرف، ودرجات مترتبة في القرب منه والطاعة لحكمه والسماع لأمره، هي كلها بمنزلة ملائكة الله العلوية والسفلية، العلمية والعملية على شعوبها وقبائلها، المترتبة في مقاماتها النازلة في مراتبها، كلٌ له مقام معلوم، حيث أنهم كلهم جُبلوا على الطاعة لا يستطيعون له خلافاً، بل لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد