الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ }

لما أشار إلى مخاصمة أعداء الدين لسيد المرسلين، وتكذيبهم إياه في ما أتى به من الآيات البيّنات، وما أنذر به من أمور الآخرة والقيامة والبعث والحشر، وذكر ما يتسلّى به الرسول (صلى الله عليه وآله)، فأراد أن يشير إلى تقبيح إنكارهم للحق، ومخاصمتهم للرسول، وتكذيبهم للبعث بأبلغ وجه وأشنع صورة، وأول دليل على غيّهم وضلالهم، وتمادي كفرهم وإصرارهم، وأعدل شاهد على جحودهم للنعم والأيادي، وعقوقهم بر المنعم عليهم وإحسانه، وتغلغلهم في الخسة والدناءة، وتوغلهم في المذلة والرداءة، حيث قرر ذلك بأن عنصرهم الذي خلقهم منه أخسّ شيء وأمهنه، وهو النطفة القذرة المذِرة المنتنة، الخارجة من الأحليل - الذي هو قناة النجاسة -.

ولقد كرر الله ذكر النطفة التي منها بدء خلقة الإنسان في مواضع كثيرة من القرآن، ليتفكر أنه من أي شيء خلقه الله، ولئلا ينسى ذاته ويغفل عن شكر منعمه وخالقه المعبود، الذي خلقه من أوهن مادة وأنجس طينة، وشرّفه بكسوة هذا الوجود، وصوره في أحسن صورة وتقويم، فقال:قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [عبس:17 - 22]. وقال في موضع آخر:وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } [الروم:20] وقال أيضاً:أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ } [القيامة:37] إلى غير ذلك من الآيات.

فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز، ليس بمجرد سماع لفظها ترك التفكر في معناها، بل لينظر الإنسان إلى النطفة التي منها بدء خلقه، فيعلم أنها مادة قذرة لو تُركت ساعة ليضربها الهواء فسدت وتفتتّت، وتفكر في أنها كيف أخرجها ربها رب الأرباب من بين الصلب والترائب، ولولا عنايته وَجُوده في حق هذا المولود، فمن الذي أخرجها ونقلها في أطوارها، ثم في أنه كيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما، بل كيف جمع بين الأجداد والجدات وألقى المحبة بينهم والألفة في قلوبهم، وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى هذا الإجتماع.

ثم كيف استخرج النطفة عن الرجل بحركة الوقاع، وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق وجمعها في الرحم، ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بدم الحيض وغذاه حتى نما وتربّى وكبر، وكيف جعل النطفة - وهي بيضاء - علقةً حمراء، ثم كيف جعلها مضغة، ثم كيف قسّم أجزاء النطفة - وهي متشابهة ومتساوية - إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم، ثم كيف ركّب من اللحم والعظم والأعصاب والعروق وغيرها من الأعضاء الظاهرة المتشكلة بأشكال مختلفة، فدوّر الرأس، وشق السمع والبصر وسائر المنافذ، ثم مدّ اليد والرجل وقسم رؤوسها بالأصابع، وقسّم الأصابع بالأنامل، ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص ومقدار مشخص لعمل معين، ثم كيف قسّم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام: فركّب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لفائدة معينة بحيث لو فقدت طبقة منها أو زالت عن موضعها وَوَصْفِها لعطلت العين.

السابقالتالي
2