الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ }

من شواذ القراءات قراءة الحسن والأعمش: " ركوبهم " بالضم، وقراءة عائشة وأبي بن كعب " ركوبتهم " أما الركوب فمصدر على حذف مضاف، كذو وأمثاله، ويجوز أن يكون التقدير: " فمن منافعها ركوبهم " كما يقول الإنسان لغيره: " من بركاتك وصول الخير إليّ ".

وأما " الركوب " و " الركوبة " فهما ما يركب كالقتوب والقتوبة، والحلوب والحلوبة - لما يقتب ويحلب - وقيل: " الركوبة " جمع.

وذلّلناها لهم - أي: سخّرناها لهم حتى صارت منقادة، ولولا تذليله وتسخيره لها وإلاّ فمن الذي يقدر عليها كما قيل:
يصرّفه الصبي بكل وجه   ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوى   فلا غير لديه ولا نكير
ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبّح بقوله:سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [الزخرف:13].

فمنها ركوبهم ومنها يأكلون - قسّم الأنعام بأن جعل منها ما يركب، ومنها ما يذبح فينتفع بلحمه ويؤكل.

تبصرة عقلية

لما أشار سبحانه إلى مبدء وجود الحيوان وغايته من ملائكة الله المكرمين وأوليائه الصالحين، أراد أن يشير إلى بعض منافعه العرضيّة وفوائده التبعية، وقد تقرر عند الحكماء في العلوم النظرية، الفرق بين ما هو علّة غائية ماهيّة وغاية ذاتية وجوداً، وبين ما يتبعها - سواء كانت من الضروريات اللازمة أو من التفضلات الزائدة - وبيّنوا ذلك بأدلة موضحة وأمثلة كاشفة، وحكموا بأن أفعال الله تعالى وأن لم يكن لها علة غائية، ولكن ذاته ذات لا تحصل منه الأشياء إلاّ على أتم ما ينبغي وأبلغ ما يتصور من النظام - سواء كان ضرورياً كوجود العقل للإنسان والمعرفة للعقل والنبي للأمة، أو غير ضروري لكنه من التفضلات المستحسنة، كإنبات الشعر على الحاجبين، وتقعير الأخمصين للقدمين -.

فكما أن الماء والنار والشمس والقمر إنما تفعل أفاعيلها - من التبريد والتسخين والتنوير - لحفظ كمالاتها، لا لانتفاع غيرها، ولكن يلزمها انتفاع الغير، وكذلك مقصود الأفلاك في حركاتها هي الطاعة لله والخدمة لما وراءها، والتشبّه بالخير الأقصى بوساطة المعشوقات الكاملة العقلية، فلكل منها مطاع معشوق يخصه - وإلاّ لما اختلفت الجهات والحركات - وللجميع إله واحد ومحبوب واحد، يضمحل تحت نور كبريائه كل خير ومحبوب دونه، هو الذي أدار رحاها وبسم الله مجراها ومرساها، ومطلوبها في الحركات والصلوات والركوع والسجود، وطاعة الله وطلب التقرب منه والتشبّه بما عنده، لا نظام السفليات من الإنسان والحيوان والنبات، إلاّ أنها يترشح منها نظام ما دونها على أبلغ وجه وأتمّه، كما قيل: " وللأرض من كأس الكرام نصيب " ، فإن الأرض والأرضيات مما لا قدر لها محسوساً حتى تتحرك لأجلها الفلكيات.

السابقالتالي
2