الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ }

ثم أعاد الكلام إلى ذِكر شواهد التوحيد وآيات الربوبية، فقال: أولم يروا أنا خلقنا لهم - أي: لأجل وجودهم، أو لأجل انتفاعهم - مما عملت أيدينا - أي: مما تولينا خلقه بإبداعنا وانشائنا من غير مشاركة أحد ولا إعانة معين فيه، لبدائع الفطرة وشواهد الحكمة فيها التي لا يصح أن يقدر عليها إلاّ هو.

و " اليد " في اللغة يطلق على معان: منها: الجارحة المخصوصة، ومنها: النعمة - يقال: لفلان يد بيضاء، ومنها: القوة - يقال: فلان تلقي قولي باليدين، أي بالقوة والتقبل، ومنها: تحقيق الإضافة، كما في قول الشاعر:
دعوت لما نابني مِسْورَا   فلبّى فلبّى يَدَي مِسْوَر
وإنما ثنّاه لتحقيق المبالغة في الإضافة إلى مسور، ويقولون: " هذا ما جنت يداك " وهو المعني في الآية، وإذا قال رجل: " عملتُ هذا بيدي " دلّ ذلك على انفراده بعمله من غير أن يكِلَه إلى غيره، وهو المعني في الآية.

وفي الكشّاف: " عمل الأيدي استعارة من عمل ما يعملون بالأيدي ".

قلت: فعلى هذا كان قوله: { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ } موضع " مما عملنا بالأيدي ".

و " الأنعام " هي الإبل والبقر والغنم - فهم لها مالكون - ولو لم نخلقها لما ملكوها ولما انتفعوا بها وبألبانها وركوب ظهورها ولحومها، أي: خلقناها لأجلهم فملّكناها إياهم، فهم متصرفون فيها تصرف الملاّك في أملاكهم، وقيل: فهم لها ضابطون قاهرون لم نخلقها وحشيّة نافرة منهم لا يقدرون على ضبطها، بل مسخرة مذلّلة، من قول الشاعر:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا   أملك رأس البعير أن نفرا
أي لا أضبطه.

تبيان كلامي وبرهان حكمي

قد تقرر عند كبراء الحكماء وأولياء المعرفة والإيقان، وأهل النسك والإيمان، أن وجود الإنسان هو غاية إيجاد المكونات العنصرية من الجماد والنبات والحيوان، لأن الغاية في كل موجود حادثٍ هو الوصول إلى كمال ثانٍ له، والبلوغ إلى ما هو أشرف، فالكمال الثاني للجسم العنصري، هو الصورة التركيبية التي للجماد، الحافظة له عن التبدد والانحلال والفساد، وكمال مرتبة المعادن هي النفس النباتية المفيدة زيادة في الأقطار وتوليد الأمثال، وكمال النبات هي النفس الحيوانية المفيدة للحس والحركة بالإختيار، وكمال الحيوان هو البلوغ إلى درجة الإنسان، فالإنسان كمال العالم العنصري وثمرته وغايته، ولا يلزم مما ذكرناه أن يكون كل جماد ونبات وحيوان ممكن الوصول إلى ما هو فوقه إمكاناً وقوعياً استعدادياً، بخصوص تعيّنه الخاص الشخصي أو النوعي، بل اللازم منه ذلك بحسب مطلق طبيعته الواقعة في وسط من أوساط حدود التوجهات إلى غاية الوجود ومطلق وجوده، الواقع في مرتبة من مراتب القرب والبعد من خلاّق الخير والجود، إذا لم يكن له حجاب من تعيّنه ووجوده، بل لا بدّ من توجهه إلى مرتبة تكون فوقه، وانتقاله إلى درجة أخرى وتطور بطور آخر، من انزعاج في وجوده وقبول تأثير ولين وانكسار سَوْرَة وقلة تمنّع وشدة افتقار.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد