الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }

قرئ بالتاء والياء كلاهما على صيغة الأفعال، فعلى الأول يكون المنذر هو الرسول، وعلى الثاني يكون المنذر إمّا الله بالقرآن، أو القرآن نفسه، وقرئ: ولتنذر ولينذر من " نذر به " إذا علمه ".

لمّا حقق الله ماهية ما أنزل الله على رسوله، بأن حصره في قسمين هما أشرف أقسام الكلام، لأن التقسيم باب من التعريب - وهو ضم قيود متخالفة إلى المقسم ليحصل بانضمام كل قيد إليه ماهية قسم منه وحده -، أراد أن يبيّن غاية المُنزل، إذ الحقائق قد تعرف بغاياتها أيضاً كما تعرف بقيودها وأجزائها، فبيّن الفائدة فيه فذكر أن الفائدة فيه أمران: إنذار المؤمنين، وإيجاب كلمة العذاب على المنافقين.

مكاشفة

تحقيق الآية يستدعي إشارات:

الأولى في معنى " الحي " هاهنا:

إن " الحياة " حياتان: حياة الجسد وحياة النفس، أما حياة الجسد: فهي " النفس " بعينها، لأن بالنفس يتحرك ويحس وينمو ويتغذى، وأما حياة النفس فهي قوة نورية بها تهتدي النفس إدراك المعارف الحقة الإلهية، التي توجب بقاءها أبداً سرماً مخلداً.

وتحقيق ذلك، أن ماهية الإنسان لمّا كانت مجموعة من بينه جسمانية ونفس روحانية، وهما جوهران متضادان في الأحوال الذاتية، متبائنان في الصفات الأصلية، مشتركان في الأفعال العارضة والآثار الزائدة، فصارت حياة كل منهما شيئاً آخر، وإحدى الحياتين - وهي الدنيوية - لا تحتمل البقاء والدوام، لأن الحس والحركة مثاران (منشآن) للتغير والدثور، لأن قوامها بالتجدد والإنفعال والتأثر والحركة، وأما الحياة الأخروية فهي باقية دائمة، لأن العقل والإبداع اللذين فيها بإزاء الحس والحركة في الحياة الحيوانية لا يحتملان العدم والإنقطاع - كما تقرر في مقامه -.

ولكل من الحياتين قوة واستعداد وكمال، فالقوة في الحياة الحسية كما للمني، والاستعداد فيها كما للجنين ما دام كونه في مضيق الرحم، والكمال كما للمولود، وأما القوة في الحياة الملكوتية فكما لكل نفس إنسانية في أوائل درجتها ومبدء فطرتها التي فطر الله الناس عليها قبل أن يتغير أو ينحرف، وأما الاستعداد فكما لأرواح أهل الإيمان والتقوى ما داموا في مضيق رحم الدنيا ومشيمة الأبدان قبل خروجهم من حفرة القبور إلى سعة عالم الآخرة والنشور، والجنة التي عرضها السموات والأرض، وأما الكمال فكما لأهل المعرفة عند قيام الساعة عليهم - سواء قامت على غيرهم أم لا -.

قال الجنيد - قدس سره - في هذه الآية: " الحي من تكون حياته بحياة خالقه، لا من تكون حياته ببقاء هيكله، ومن يكون بقاؤه ببقاء نفسه فإنه ميت وقت حياته، ومن كانت حياته بربه كانت حياته عند وفاته، لأنه يصل بذلك إلى رتبة الحياة الأصلية ".

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9