الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ }

قرئ " ننكسه " من " التنكيس " و " ننكسه " من " الانكاس " وقرئ " أفلا تعقلون " بالتاء والياء.

وفي الآية إشارة إلى أن الانسان كلما أمعن في السنّ، نكس قواه البهيميّة والسَّبُعِية، وأخذت البنية في الذبول والخلقة في النقصان، وشرعت الصفات والهيئات الباطنية في التأكد والرسوخ، وابتدأت أحوال الضمائر والبواطن في الانكشاف والظهور، وقد جاءت أشراط الساعة للقيامة الصغرى، وبرزت علامات السعادة والشقاوة لذوي البصائر العقلية، أفلا تعقلون أيها العاقلون.

أو ما تستحيون من استبطائكم هجوم الموت اقتداءاً برعاع الغافلين الذين لا ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يَخِصِمّون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، فتأتيهم الأمراض نذيراً من الموت فلا ينزجرون، ويأتيهم الشيب رسولا منه فلا يعتبرون، فيا حسرةَ على العباد ما يأتيهم من رسول إلاَ كانوا به يستهزئون!.

أفيظنون أنهم في الدنيا خالدون؟ أو لم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون إنهم إليهم لا يرجعون؟ أم يحسبون أن الموتى الذين سافروا من عندهم فهم معدومون؟ كلا، إنْ كلٌ لمّا جميع لدنيا محضرون، ولكن ما يأتيهم من آية من آيات ربهم إلاّ كانوا عنها معرضين، وذلك لأنا جعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون، فسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون.

اشارة أخرى

لما ذكر في الآية السابقة نفي استطاعة الرجوع للأشقياء إلى الفطرة الأصلية التي كانت لهم بالطمس والمسخ، وإن كان أكثر الذين (الناس) ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم كانوا لغاية الحمق والجهالة والغرور يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً، ويتمنون آخر الآمر ومنتهى العمر حين انكسار قواهم وقصور دواعيهم الجسمانية، وظهور أسباب المذلّة والهوان، وأشراط ساعة الموت والحرمان، الرجوع إلى أول العمر، وحين أوان القابلية والإستعداد قبل إفناء الآلات، وصرفها في غير ما خلق الله لأجله وكلّف به العباد، وتحسّر وتأسف على تضييعها لغير طائل وصرفها من غير حاصل، قائلاً:
نهاية اقدام العقول عقال   وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا   سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا   وحاصل دنيانا أذى ووبال
وكثيراً ما بعض الكفّار يتمنّون الرجوع إلى حالة الصبوية - بل الترابية - عند ظهور أهوال القيامة وشدائد الساعة عليهم، كما في قوله تعالى:وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [النبأ:40] فأشار إلى دفع هذا التمنّي، ونفي هذا الوسواس، وكشف فساد هذا التشهّي الفاسد، واستقباح هذا التصوف البارد بعد الأربعين.

يعني: متى لم يتيسّر لهم قبل انطماس عيونهم القلبية، وانمساخ صورتهم الباطنية، إدراك علم التوحيد، وملاحظة عالم المعاد، والسعي في طريق العبودية لإدراك شواهد الربوبية، فبعد زوال الاستعداد، وفساد أكثر القوى والآلات، وانتكاس الخلقة من أعلى درجة الاعتدال والاستواء إلى أدنى رتبة الإعوجاج والانحناء، وانقلاب نور الحواس من غاية الاشتعال والذكاء إلى غاية الخمود والإنطفاء، أنّى يتصور لهم الشروع في طلب الاهتداء وسلوك سبيل الله بهذه القوى، فمن مضت عليه أدوار السنين، وعمّره الله إلى أربعين أو خمسين من غاية أشده المعنوي، أخذت خلقته في الذبول والانحلال، وقواها في الانتكاس والإضمحلال.

السابقالتالي
2 3 4