الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ }

قرأ أبو عمرو وابن عامر " جُبْلاً " بضم الجيم وسكون الباء، وقرأ أهل المدينة وعاصم " جِبِلاًّ " بكسر الجيم والباء وتشديد اللاّم، وقرأ روح وزيد " جُبُلاًّ " بضم الجيم والباء وتشديد اللاّم وهو قراءة الحسن والأعرج والزهري، وقرأ الباقون من القرّاء " جُبُلاً " بضمهما وتخفيف اللام، وهذه اللغات كلها واردة في معنى الخلق، وقرئ " جِبَلاً " بكسر الجيم وفتح الباء، جمع " جِبْلَه " بكسر الأول وسكون الثاني كفِطْر وخِلْق، جمع فطرة، خِلْقَة.

وروي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قرأ: " جيلاً " واحد " الأجيال " وهم أصناف الترك والروم.

مكاشفة

معناه: ولقد أضل الشيطان الرجيم كثيراً من خلائق الله بكيده ومكره وحبائله وخُدَعه وشَرَكه وأحزابه وأتباعه، وَوَعْدِه بالشر ووعيده على الخير وتمنيته، كما قال تعالى:وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } [الإسراء:64] وترويجه الباطل في صورة اليقين وقبولهم دعوته بسبب انحرافهم عن الصراط المستقيم، وتركهم طريق المجاهدة معه بإبطال كيده ودفع معارضته بقوة البراهين، وإعراضهم عن الحكمة الإلهية، ورفضهم بالكلّية اقتناء المعارف الربوبية، وإفسادهم أذواقهم الفطرية عن ذوق المشرب وفهم المطلب.

كما حكى الله عنهم بقوله:وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ ٱلأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } [النساء:119] وإلاّ لكان يجب أن يسهل عليهم دفع كيد اللعين ويهون عندهم الدنيا، وتنكشف لهم حقارتها ودثورها وفناؤها، وعظمة الآخرة وبقاؤها ودوامها، ويظهر لهم كيفية الإرتقاء إليها والصعود إلى منازلها ومدارجها، وكيفية التخلص عن سجن الدنيا وحبس النفوس، والتباعد عن دار الجحيم ومهاويها ودركاتها.

فإن قلت: فما الحكمة في إيجاد مثل الشيطان، وتسلّطه على أفراد الإنسان حتى أغوى كثيراً منهم، وأهلكهم وأوقعهم في سخط الله وغضبه؟

قلنا: الحكمة فيها كثيرة لا يحيط بها إلاّ الله، من جملتها أنه كما ينتفع الإنسان من إلهام الملك، قد ينتفع من وسوسة الشيطان، فإن اتباع الشيطان وأهل الضلال كلهم تبعة الوهم والخيال، ولو لم يكن أوهام المعطلين وخيالات المتفلسفين والدهريين، وسائر أولياء الطاغوت ومراتب جربزتهم وفنون إعوجاجاتهم وضلالاتهم وانحرافاتهم وخيالاتهم، لما انبعث أولياء الله في طلب البراهين، لبيان علة حدوث العالم على نهج الكشف واليقين.

وهكذا في الأعمال، لو لم يكن اغتياب المغتابين وتجسّس المتجسّسين بعيوب الناس، لم يجتنب الإنسان كل الإجتناب من العيوب الخفية، التي قد لا يراها الأصدقاء، وإنما يظهر لهم تحققها من تدقيقات الأعداء، وفحصهم والتماسهم ظهورها عليه وعلى غيره.

فكم من عدو انتفع العبد من عداوته أكثر مما ينتفع من محبة الصديق، فإن المحبة مما تورث الغفلة عن عيوب المحبوب، والعمى عن رؤية نقائصه، والصمم عن سماع مثالبه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7