الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ }

" سلام " مبتدأ محذوف الخبر، لدلالة " لهم ما يدعون " عليه، كأنه قال: " لهم ما يدعون ولهم سلام " ، ويجوز أيضاً أن يكون بدلاً من " ما يدّعون " ، و " قولاً " مفعول به، أي: يقول الله قولاً يسمعونه من رب رحيم، فنودوا بدوام الأمن والسلامة مع سبوغ النعمة والكرامة، أو مفعول مطلق، أي: يقال لهم قولاً من جهة رب رحيم. بمعنى أنه سبحانه يسلم عليهم بلا واسطة، أو بواسطة الملائكة، تعظيماً وتكريماً لهم، وعلى تقدير البدلية، يكون اشعاراً بأن ذلك غاية ما يتمنونه وغاية منى أهل الجنة أن يسلّم الله عليهم، ولهم ذلك من غير منع.

وعن ابن عباس: الملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين.

وقيل: إن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب، يقولون: " سلام عليكم من ربكم الرحيم ".

وفي الكشاف قيل: " ما يدّعون " مبتدأ وخبره " سلام " ، بمعنى: ولهم ما يدّعون سالم خالص لا شَوْبَ فيه، و " قولاً " مصدر مؤكد لقوله: " ولهم ما يدّعون سلام - أي عِدَة - من رب رحيم " ، والأوجه أن ينتصب على الاختصاص، وهو من مجازه.

وقرئ: " سلم ". في قراءة ابن مسعود: " سلاماً، نصباً على الحالية، أي: لهم ما يدّعون سالماً.

مكاشفة برهانيّة

قد سبقت الإشارة إلى أن الإنسان إذا مات عن الدنيا ولذّاتها، وصفت نفسه عن دَرَن الشهوات، وتنوّرت بأنوار العبودية والطاعة، وتخلّقت بأخلاق الله، وبلغت مقام الفناء في التوحيد، فحشر إلى ربه وتسرمد بسرمديته، ونفذ حكمه في العالم على حسب التابعية ومقام الرضا، واستشرقت ذاته اللطيفة الصافية باشراق نور المحبة في أرجائها، فتكرم بكرامة التكوين والإيجاد، فتسخّر له ما في الملك والملكوت، ويسمع دعاؤه ودعوته في عالم الجبروت، لكونه وليد القدس وخليفة الله في أرضه، ويكون ممن أمر الله سبحانه بواطن الملكوت والروحانيين وعباده المسبّحين بأن يسجدوا له كلهم، بقوله:ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } [البقرة:34]. ويكون ممن يطيع له الملكوت ويسجدون له كما سجد الملائكة كلهم لأبيه آدم حين أمرهم الله بسجوده، كما في قوله تعالى:إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ص:71 - 72]، وها هنا يظهر سرّ ما ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " أن العالم يستغفر له من في السماء ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر ".

وبالجملة، الإنسان إذا انخرط في سلك المقربين، يصير نفس تصوره لكل ما يتمناه نفس وجود ذلك الشيء في العين، كما أن قبل ذلك يعمّ لكل أحد إذا تصور شيئاً وتمنّاه خضع له في عالم توهمه، ويكون نفس تصوره لشيء وجوداً خيالياً ذهنياً له، فلكل أحد ها هنا ما تشتهي نفسه في خياله وضميره، إلاّ أن ضميره وباطنه في غاية القصور، وارادته وهمّته في غاية الضعف، فيكون للأشياء بالقياس إليه وجود كالعدم، وحضور كالغيبة، وأما في الآخرة فإذا قوي روح الإنسان بالعلم والإيمان، وتخلص عن قيود الإمكان ورقّ الحدثان، وسلاسل الذنوب وغلّ العصيان، كان الذهن له خارجاً، والعلم عيناً، والغيبة حضوراً، فيحضر ويوجد له دفعة واحدة كل ما يهمّه ويهواه، هذا هو المراد بقوله تعالى: { ولهم فيها ما يدّعون }.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10