الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

لأنه يوم ايفاء الحقوق وجزاء الأعمال على وجه الحق والعدل في الثواب والعقاب، إذ لا حكم لأحد غير الواحد القهار، لارتفاع الأسباب العَرَضية والعلل الإتفاقية، وانعدام أسباب الجور والظلم، من جهالة الحكّام وعجزهم عن امضاء الأحكام على التمام، وتدليس المتحاكمين وابدائهم الشبه والأوهام، ولانتفاء القواسر والموانع، وانسلاب التزاحم والتصادم والتضايق، وغير ذلك من الأمور التي هي من باب ضروريات الأكوان الدنيوية، والقوابل المادية المركّبة من العناصر المتضادات والأركان المتفاسدات الموجبة للتغالب والتفاسد في الموجودات المتغيرة الأحوال، المتخالفة الأغراض والآمال.

وأما الدار الآخرة، فالمؤثر هناك أسباب عالية بإذن ربهم، وعمّال مؤتمرة بأمر موجدهم، لا يعصون الله ما أَمَرَهُم ويفعلون ما يؤمرون، والمتأثر نفوس وأرواح إنسانية بحسب ضمائرهم ونياتهم، مجردة عن الأغشية واللبوسات، ووساوس النفس وسوء العادات.

وبالجملة، الظلم إذا وقع، فإنما يقع من الشخص على نفسه، أو من غيره عليه، وكلاهما مستحيلان يوم الآخرة.

أما استحالة الثاني فيه: فإن المؤثر في الشيء هناك ليس إلاّ ما هو علة ذاتية لذلك الشيء، لارتفاع الأسباب العَرَضية والمبادئ القسرية، وعدم تزاحم الأمور وتصادم الأسباب الاتفاقية، وتضايق الوجود فيه، والعلة الذاتية للشيء مقوم لوجوده ومحصل لذاته وملائم لطبعهوَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف:49].

وأما استحالة الشق الأول، فلأن ما يصل إلى أحد في الدار الآخرة ليس إلاّ حاصل ما فعله في الدنيا، لأنها دار الثواب والجزاء بلا عمل، كما أن الدنيا دار العمل بلا جزاء، فإن وقع ظلم من أحد على نفسه، فقد وقع في الدنيا لا في العقبى، ولهذا قال بعض الكبراء: " ليس الخوف من سوء العاقبة، إنما الخوف من سوء السابقة " ، " الشقي شقي في بطن أمه " أي في الدنيا.

فقد ثبت قوله تعالى: { فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } ، أي لا ينقص من له حق من حقه من الثواب، ولا يفعل به إلاّ بما يستحقه من العقاب، إذ الأمور جارية على مقتضى الحق والحساب، معمولة على قانون العدالة والصواب، وذلك قوله تعالى: { وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.

بصيرة قَلْبِية

إن قوله تعالى: { فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } ، مما يشعر بانحصار تحقق الظلم والشر في هذه الدنيا الفانية، وأما الواصل إلى الأشقياء من عذاب النار وشدائدها، فإنما هو نتيجة أعمالهم في الدنيا، وظلمهم على نفوسهم فيها، لقوله تعالى:وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [النحل:33] أي بما سبق منهم في الدنيا، وليس يتصور ظلم مُستأنف في الآخرة على أنفسهم ولا على غيرهم.

والسبب اللمي لاختصاص وقوع الظلم والشر في الدنيا دون الآخرة - مع أن الإله والمؤثر فيهما جميعاً واحد حق يفعل ما يشاء ويختار ما يريد من غير مدافع أو مشارك - هو ما وقعت الإشارة إليه من أنها " دار الحَرَكات والاستعدادات " لأنها واقعة في آخر الدرجات من الوجود، في أسفل الدركات من مراتب الخير والجود، وبعد مرتبتها في النزول والخسة، ليس إلاّ العدم المحض، والبطلان، بل وجودها في مرتبة العدم.

السابقالتالي
2 3 4