الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

إذا قيل للمشتغلين بالجَمْع والإدِّخار، الناسين للآخرة والرجوع إلى الواحد القهار - لانهِماكِهِم في طلب اللذّات واقتناء الشهوات، واستغراقهم في أبحر الشواغل الماديّات، ورقودهم في مراقد الجهالات-: أنفِقوا شيئاً مما رزقكم الله في طاعته، وأخرِجوا ما أَوْجَبَ عليكم إخراجه من أموالكم، احتجّ الذين كفروا، وستروا أنوار الحق بظلمات صفاتهم الرديَّة، وأفعالِهم القبيحة للَّذِين آمنوا وشهدوا آياتِ معرفة الله بنور بصيرتهم، في منع حقوق الله، وإنكار فرائضه، وإِبْطال أحكامه، بأن قالوا: " كيف نُطْعِمُ مَنْ يَقدِر الله على اطعامه، ولو شاء إطعامَه أطعَمَه؟ فإذا لم يُطْعِمْ دلَّ على أنه لم يَشَأ ".

وهذه شبهة واهية ومغلطة داحضة، احتج بها طائفة من أهل الإباحة والضلال، وانحبل بمثل هذه الحبال كثير من العوام والجهّال، وهي أوهَنُ من بيت العنكبوت. ونظيرُ هذا القول، قول من قال: " إن الله غنيٌّ عن عبادتنا، وغني عن أن يستقرض منّا، فأي معنى لقوله تعالى:مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة:245] وغني عن المعاملة معنا، فما وجه قوله:إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [التوبة:111]؟ ولو شاء إطعام المساكين لأطعم، ولا حاجة لنا إلى صرف أموالنا إليهم ".

فانظر كيف كانوا صادقين في دعواهم، وكيف هلكوا بصدقهم، كأكثر المتكلمين في مجالس العوام والحكام، الممارين مع أهل الحق في مسائل الحلال والحرام، بتمهيد بعض المقدمات المقبولة من النقليات، طلباً للشُبُهات، وإحلالاً للمحرمات، فسبحان من إذا شاء أهلَكَ بالصدق، وإذا شاء أسْعدَ بالجهل،يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [البقرة:26].

وأما إفساد حجتهم، وحَسْم مادة شبهتهم فبأنه يجب أن يعلم كل أحد، أن الصفات والأخلاق، مواريث الأفعال والمعاملات، وأن الأعمال علاج لمرض القلوب، ودواء لما في الصدور، والأمراض الباطنية حاجبة عن وصول العبد إلى سعادة الأبد، وهي مما لا شعور بها لأكثر الخلق، إلاّ مَنْ ألْهَمَهُ الله من الأنبياء والأولياء، ولكل مرض من أمراض القلوب دواء مخصوص، وله قدر معلوم عند الله، والطبيب إذا أثنى على الدواء، لم يدل ذلك على أن الدواء مراد لعينه، وعلى أن له فضيلة في نفسه، بل المطلوب الأصلي، هو الشفاء اللازم من تناول الدواء.

فهؤلاء الجهلة الناقصون، لمّا ظنوا أنهم استخدموا لأجل المساكين، أو لأجل الله، ثم قالوا: " لا حظَّ لنا في المساكين، ولا حظَّ لله فينا وفي أموالنا وسعينا وجهادنا مع الأعداء، أنفقنا أو أمسكْنا، بارَزْنا أم قعدنا " فقد هلكوا بهذه البضاعة من العقل والتمييز، وتمرّدوا عن طاعة الشريعة بهذه المرتبة الضعيفة من الفطانة، فضلّوا عن السبيل، وانخرطوا في سلك الحمقى الأضاليل، ولم يعلموا أن المسكين الآخذ لِمَا لَكَ من المال، - وهو المهلك لك في المآل -، يزيل منك بواسطته مرض البخل المهلك، ويستخرج من قلبك حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، وحب الدينار الذي هو أس كل فاحشة، كالحجّام، يستخرج الدم منك، ليخرج بخروج الدم العلة المهلكة من باطنك، فالحجّام خادم لك، جالبُ نفع إليك، لأنك تخدمه وتجلب نفعاً إليه، ولا يخرج الحجام عن كونه خادماً، بأن يكون له غرض في أن يصبغ شيئاً بالدم.

السابقالتالي
2 3