الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ }

أي ليست تأتيهم آية - أيّة آية كانت من الآيات - إلاّ ذهبوا عنها وأعرضوا عن النظر فيها، بمعنى أنه كلما ورد عليهم أو أُلْقِيَ إليهم ما يدل على أحوال المبدء والمعاد، من برهان علمي، أو موعظة خطابية، أعرضوا عنها وأنكروها، فـ " مِن " الأولى، للإستغراق، لكونها وقعت في سياق النفي. و " مِن " الثانية للتبعيض، وذلك سبيلُ مَنْ ضَلَّ عن الهدى، إما بكثرة حمقه واشتغاله بمشاغل هذا الأدنى، وإما باغتراره بفطانته البَتْراء، وجحوده بما سوى ما أدركه ببصيرته العَمْشاء، أو تَلَقُّفِه من غيره تقليداً وتعصُّباً.

افتتاح كشفي

إعلم أن سبب إعْراضِ الخَلْق عن استماع آيات الله وعن التفكر في أحوال الآخرة، أمور ثلاثة: أحدها: شوائب الطبيعة ومزيِّناتُها. وثانيها: وساوس العادة وملهِياتُها. وثالثها: نواميس الأمثلة وَتَخَيُّلاتها.

أما الأولى: فَكَدَوَاعي الطبيعة وشهواتها، كشهوة البطن والفرج، ومحبة الأهل والمال والوَلَد، وذلك قوله تعالى:زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [آل عمران:14].

وأما الثانية: كَدَوَاعي النفس الحيوانية، وهي أَلذُّ من اللذات الشهوية وأجلُّ رتبة من أغراضها ومقاصدها، وهي لذة الجاه والعلو في عالم الأرض والرياسة على سائر الأقران، فَرُبَّ إنسان سَهُل عليه ترك لذة الأكل والمباشرة، وجمع المال والْيَسَار، إلاّ أنه لا يمكنه ترك العُلوّ والافتخار، وهو آخر درجات الدنيا، الذي لا يمكن الوصول إلى نعيم الآخرة إلاّ بالتجاوز عنه، كما قال سبحانه:تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص:83].

وأما الثانية: فكتسويلات النفس الأمارة بالسوء وتزيينها الأعمال الغير الصالحة وترويجها الكواسد وتحسينها القبائج وإبرازها الباطل في صورة الحق بسبب تخيلات فاسدة وتوهمات باطلة توجب إعجاب المرء بنفسه، منشأها خباثة الباطن ودناءة الهمة وشيطنة الوهم، كما في قوله تعالى:قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف:103 - 104].

وخصوصاً ما يكون منشؤها هذه العلوم الرسمية، والفنون المشهورة، وهي أغلظها حِجاباً، وأعسَرُها دفْعاً، وأكثرها فساداً، وأقواها إعجاباً للمرء بنفسه، واغتراراً بحاله، فهي ما يقع لأكثر المتشبّهين بالعلماء الحقيقيين، من اغترارهم بظنونهم الفاسدة وأفكارهم الكاسدة، وما سمعوا من ظواهر أحكام الشريعة، وتلقّفوها من غير بصيرة ولا دراية، وضمّوا إليها دعاوي باطلة، ومقاصد شيطانية، ولمقلِّديهم المشغوفين بما عندهم، من سماع الحكايات والأمثال الواردة، وإجابتهم دعوةَ المضلّين البطّالين، الفارغي الهِمَم عن مقاصد الدين، ومتابعتهم استهواء الشياطين من الجن والإنس، والإغترار بخدعهم وتلبيساتهم المُضِلَّة المهلكة، وهم الذين حكى الله عنهم وعن تحسّرهم وندامتهم في العاقبة بقوله:رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ }

السابقالتالي
2