الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

وإذا قيل للمشركين والفجّار، المنافقين المغترِّين بعقولهم القاصرة، وفطانتهم المبترة: اتقوا ما بَيْنَ أيديكم من أمر الآخرة، فاعملوا لها، واحذروا عقوبتها وعذاب نيرانها، وما خَلْفَكُم من أمر الدنيا، فأحذروها ولا تغترّوا بظاهر زينتها وَرَوْنقها وَتَزْويقها، وذلك كما في قوله تعالى:أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [سبأ:9].

لعلَّكم تُرحمون: أي لتكونوا على رجاء رحمة من الله، لأن من خاصيّة الإتّقاء استجلاب الرحمة الالهية.

وعن مجاهد: اتقوا ما مضى من الذنوب، وما يأتي من الذنوب، أراد به: اتقوا عذاب الله بالتوبة للماضي، والإجتناب للمستقبل. وعن قتادة: اتقوا العذاب المُنْزَل على الأمم الماضية، وما خلفَكم من عذاب الآخرة.

وروى الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " معناه اتقوا ما بينَ أيديكم من الذنوب، وما خلفَكم من العقوبة ". وسيأتي لك لهذا الوجه زيادة تحقيق وتطبيق.

وأما جواب " إذا " فهو محذوف، دلَّ عليه قوله:إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [يس:46] تقدير الكلام: إذا قيل لهم اتقوا أعْرَضوا عن التأمل في الحُجَج والبيِّنات، وعن التفكر في أمور الآخرة، عن مأخذ العلوم اليقينيّة دون ظواهر النقول والحكايات.

مكاشفة قلبية

إعلم أن المعلوم المكشوف عند أهل الله، أن تكرار الأفاعيل والأعمال، يوجب حدوث الأخلاق والمَلَكَات، وهي مما سيظهر في النشأة الآخرة بصورة تُنَاسِبُها، فما هو سبب إيلام الأشقياء في العقبى، من الحيّات والعقارب والنيران والحميم، والزَّقُوم، فهو بعينه موجود في سرّ قلبه، ومكنون باطنه، وإن لم تشاهده هذه العين وهذه الحواس، لأنها ينحصر إدراكها، بملاحظة الظواهر في صورها الدنيوية، وأما إدراكها بحقائقها وصورها الباطنية، فإنما تختص بذلك مشاعر باطنية ومدارك أخروية.

فما وَرَدَ الأمر باتقائه في قوله: { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } ، يرجع إلى أمر واحد، تارةً يكون في الدنيا بطور يناسب ظهوره في هذه النشأة، من صورة شهية مُلِذَّة تتلذذ به الحواس، ويشتاق له الوَهْم الحيواني والتخيّل البهيمي، وتارة يكون في الآخرة، بطور يناسب ظهوره فيها، من صورة مؤلمة موحشة مؤذية: تتألم بها نفوس الأشقياء، ويستوحش منها كلٌ من المشتغلين بها ها هنا، قائلاً عند كشف الغطاء ورفع الحجاب وحلول العذاب:يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } [الزخرف:38].

فبالحقيقة، ما يكون في الآخرة سبب إيلام المعذَّبين، ومنشأ عقوبة الفاسقين، هو معهم ها هنا، وفي إهابهم من العقائد الباطلة والنيّات الفاسدة والأغراض النفسانية والدواعي الحيوانية، من حب المال والجاه والكِبْر، والفَخْر والحسد، والرُّعونَة والمكر، والحيلة والرياء، وطلب الشُّهرة ومَيْل الرياسة، وغير ذلك من الأمور، التي تندرج جميعها تحت حب الدنيا، التي هي رأس كل خطيئة.

وهو " التنيّن " الذي يَتَوَلَّد منه للمحب للدنيا، المعرض عن طلب الآخرة، تسع وتسعون حيّة، لكل حيّة تسعة وتسعون رأساً، ينهشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه إلى يوم القيامة، كما ورد في الحديث في باب عذاب الكافر في قبره، فهذا التنيّن متمكِّن من صميم فؤاد الكفّار والمنافقين، ينهشهم ويلحسهم، لكن لا يُدْرِكونَ إيلام لَدْغه ولَسْعه، وإيحاش هيئته وشكله، لسُكْر نفوسهم بمسكرات الدنيا، ونوم غفلتهم بمرقّدات الهوى، واشتغالهم بمزَخْرَفات هذه الأدنى.

السابقالتالي
2 3