الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }

{ يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ }:

أي أنهم حقيقون بأن يتحسَّر عليهمُ المتحسِّرون، ويندم على أفعالهم النادمون، أو هُم متحسَّر عليهم من جهة الملائكة، وأهل الإيمان من الأنس والجانّ، أو من جهة الله، إما على سبيل الإستعارة في فرط انكاره تعالى، لما فعلوه، وتعظيمه ما جنَوْه على أنفسهم، أو باعتبار وقوع الحسرة من بعض عباده المخلصين، من قبيل ما روي في حديث: " يا موسى مرضت فلم تعدني " ، وكان المريض بعض الصالحين من عباده - تعالى عن النقص والشَّين علوّاً كبيراً -.

ويؤيد هذا الوجه قراءة من قرء: " يا حسرتا " لأن المعنى: يا حسرة عليهم، ثم الوجه في مثل هذا النداء، إنه عبارة عن إحضارِ صورة في الخيال، احضاراً قوياً، حتى كأنها موجودة في العين، ثم الخطاب معها بالطلب والدعاء، لأن الحال مما يستدعي حضور مثلها، فمعنى هذا النداء أن: " يا حسرتا إحضري " فإن هذه الحال، من الأحوال التي يجب حضورك فيها، فحقكِ أن تحضري فيها، وهي حال استهزاء العباد وأهل العناد بالرسل.

وقريء: " يا حسرة العباد " بالإضافة اليهم المفيدة للاختصاص بها من توجهها اليهم.

وقريء: " يا حسرةَ على العباد " بالهاء أجراءً للوَصْل مجرى الوَقفْ.

ثم بيّن سبب الحسرة، ومنشأ الندامة بقوله:

{ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [30]:

وسبب استهزاء الناقصين من الناس، والكفرة والمنافقين بالرّسل والأولياء، وكل من سلك سبيلهم في الاشتهار بذكر الله، والشتوّق إلى معرفته، ومعرفة ما ينتمي إليه، من ملائكته وكتبه ورسله وأوليائه وعباده المكرمين، والإعراض عما أكَبَّ عليه الناس، من طلب الجاه والمال، ومعاشرة الخلق والمداراة معهم، والخوض في أمورهم والمشاركة في دنياهم.

وذلك لأن الرسل (عليهم السلام) ومَنْ تابَعَهم، هم رجال الله البالغون في العقل والبصيرة، لا يؤثرون على لذة النظر إلى وجه ربهم لذة، ولا يريدون غير الوصول إلى خدمته وطاعته نعمة وسروراً، ولا يكدّرون شراب محبة الحق الأول، برجاء نعيم أو خوف جحيم، وباقي الناس بمنزلة الأطفال الناقصين عن درجاتهم، ومراتب نَقْصِهم على حسب جهالاتهم.

فإن مثال الخلائق في لذاتهم ما نذكره، وهو أن الصبي في أول نشوئه وحركته وتمييزه تظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب واللهو، ويكون ذلك عنده ألذ الأشياء لقصور نظره وهمته عن إدراك ما عداه، والتشوق إليه، ثم تظهر بعده لذة الزينة، ولبس الثياب، وركوب الدواب، فيستحقر منها اللعب، ثم يظهر بعده لذة الوقاع وشهوة النساء، فيترك بها جميع ما قبله في الوصول إليها، ثم يظهر بعد هذه الأمور لذة الرياسة والعلوّ والتفاخر والتكاثر، وهي آخر درجات لذات هذه الدنيا، وأعلاها وأقواها، وآخر ما يخرج عن رؤوس السالكين إلى الله.

السابقالتالي
2