الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } * { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ }

{ قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ }:

استئناف، كأنه وقع جواباً عن السؤال عن حاله بعد الشهادة، لأن المقام مظنة المسألة عن حاله عند لقاء ربه، كيف صار بعد هذه المجاهدة في الدين، ونصرة رسل الله، وعن قتادة، رَجَموه حتى قَتَلوه. وعن الحسن ومجاهد: أن قومه لما أرادوا أن يقتلوه رفعه الله إليه فهو في الجنة لا يموت إلاّ بفناء الدنيا وهلاك الجنة - وقالا -: إن الجنة التي دخلها يجوز هلاكها. وقيل: أنهم قتلوه إلاّ أن الله سبحانه أحياه وأدخله الجنة، فلما دخلها:

{ قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [26] بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي }:

أي سترني بنور رحمته، وكساني بكسوة الكرامة والعلم، وربّاني ورقانّي من حد النقصان النفساني، إلى حد الكمال العقلاني، والتربية: تكميل الشيء تدريجاً، والله سبحانه يربي النفوس الإنسانية بالفضيلة، والحال من حد النقص إلى حد الكمال، وذلك لأنها في أول خلقتها في غاية الضعف، لقوله:خُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [النساء:28]، لأنها نشأت من اللاشيء كما قال:لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [الإنسان:1] ولا أضعف من اللاشيء، وتكونت من وسخ الطبيعة وظلمة الهيولى كما أشار إليه بقوله:يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [البقرة:257]، وإنما استكملت بالتدرج من حال إلى حال، وبلغت من مرتبة العقل الهيولاني إلى عالم العقل الفَعّال، بتتالي إلهاماتٍ من الله، وتَرادُف كمالاتٍ عقيب رياضات من المبدء الأعلى، حتى زالت عنها العيوب والقشور، وخلصت كالذهب الخالص من الأوساخ والأكدار، الباعثة لألَم الذَّوبَانِ في الكُور، والأغشية والظلمات الموجبة للثبور، والهيئات والأغلال الموبقة المعقبة لعذاب القبور، والجهالات الحاجبة عن البلوغ إلى عالم النور.

وهذا معنى التربية للنفس، المقتضي لها الشرف والكرامة، ولذا عقّبه بقوله:

{ وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } [27]:

وإنما تمنَّى علم قومه بحاله، ليكون علمُهم بكماله، سبباً لهم في استحصال مثل ذلك لأنفسهم، والرغبة منهم في سلوك طريقه، واكتسابهم العلم والإيمان، وتوبتهم عن الكفر والعصيان، تكثيراً لأهل الخير والإحسان، وسوقاً لعباد الله إلى الجنة والرضوان، وفي الحديث: " نَصَحَ قومه حياً وميتاً ".

وفيه تنبيهات عظيمة على أسرار لطيفة، من وجوب كظم الغيظ، والصبر على كيد الكافرين، والعطف على الجاهلين، وطلب الهداية لمن أوقع نفسه في الهلاك، واستحصال الخلاص لمن تورّط في الموبقات، واقتحم في نار الشهوات، كالفراش المبثوث، والنصيحة لأهل البغي والعناد، والتشمّر في تخليص أعدائه، والتلطّف في نجاة خصمائه، وتناسي ظلم الأعادي، وطلب انتقامهم، عوض إيلامهم، والصفح عن زلاتهم وخصوماتهم، والذهول عن الشماتة بهم، والدعاء عليهم بتمنّي الخير لقاتليه، وهم كفرة لئام، وطلب الرحمة لمهلكيه وهم عبدةُ أصنام.

نظير ذلك ما حكي، أنه لما فعل بابن منصور ما فعل، سمع منه همهمة، فلما أصغى إليه فإذا هو يقول في مناجاته: " إلهي أفنيت ناسوتيّتي في لاهوتيّتك، فبحق ناسوتيّتي على لاهوتيّتك أن ترحم من سعى في قتلي ".

السابقالتالي
2