الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ }

هذا الرجل، هو " حبيب بن إسرائيل النجّار " ، وكان في سابق الزمان ينحت الأصنام، وهو كناية عن اشتغاله سابقاً بالإعتقادات الجزئية، والصور الخيالية والوهمية، التي يتصور وجودها في الخيال بتصرف القوة المتفكّرة، وهي التي من شأنها تصوير الحقائق في كسوة الحكاية الخيالية، وإنكار العقائد الحقة الإلهية، إلاّ في صور المحسوسات، فصاحب العقيدة الوهمية، لقصور علمه ما يعتقده إلهاً، وليس إلهه ومعبوده - على حسب اعتقاده - إلاّ ما يوجده بوهمه، ويصوِّره بقوته المتصرّفة، فهو الذي ينحت صَنماً، ويعتقده إلهاً، ويتخذه معبوداً، كما في قوله تعالى:أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية:23].

وأكثرُ الناس - إلاّ مَنْ أيّده الله بالتقديس الأتَمّ، والتنزيه الأكمَل - عابدون لأصنام العقائد الجزئية، ومعتقدون للصوَر الوهمية، حتى أن عبدة الأصنام الخارجية، الحَجَرية والخشبية والمعدنية، إنما عبدوها لإعتقادهم معنى الالوهية في تلك الأجساد، من الجماد وغيره، فَهُم أيضاً بالحقيقة، قد عبدوا معتقداتهم، وما حصل في أوهامهم، فالهوى معبودهم جميعاً أوّلاً وبالذات، والصنم الخارجي معبود لهم بالعرض، فعلى هذا، غير الموحّد العارف، لهم جميعاً اشتراكٌ في الإشراك، واتفاقٌ في طلب الهوى وعبادة غير الحق وما سوّى.

وَمَا مِن مؤمن، إلاّ وَلَهُ عُبورٌ عن هذه الإعتقادات الجزئية، فَورودُ الصُّوَرِ الوهمية، أو الأصنام الخيالية، لا عَلَى وجه الإذعان، بل على مسلك التفتيش وتصوير الاحتمالات البعيدة، لِيُقامَ على نَفيِها البُرهان، كما وقع للخليل - على نبينا وآله وعليه السلام - من العبور على آلهة عبدة الكواكب، لزيادة الكشف واليقين، في تنزيه الحق الأول عن مماثلتها، ولإقامة البرهان، على فسادَ تَوَهُّم المحجوبين، وإخراج تلك الصور، التي هي إله سائر المعتقدِين، من المشركين والمعطّلين، من أن تستأهل اعتقاد الألِوهيَّة فيها، فإنه يوجب العذاب الأليم، ويستدعي عقوبة الاحتجاب من الله، والتَّردِّي إلى أسفل دَرْك الجحيم.

فقد ظهر أن أهل البصيرة الإلهية، يَعْبُرونَ عنها في أسرع زمان، مِن غير أن يتضرروا بها، كما قال واحد من أهل البيت (عليهم السلام): " جزناها وهي خادمة " ، وإليه الإشارة في قوله سبحانه:إِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم:71 - 72].

فكان حبيب النجّار، من جملة أهل البصيرة، الذين نوَّرَ الله بواطنهم بِكَشْف الحقائق، والارتقاء من عالم الوهم والخيال، إلى عالم التقديس بنور المعرفة والحال، وهو أحد السبّاق الثلاثة، المذكورة في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " سبّاق الأمم ثلاثة، لم يكفروا بالله طرفةَ عَيْن: علي بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون " وفي تفسير الثعلبي بزيادة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " وَعَليٌّ أفضلُهم ".


السابقالتالي
2