الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ }

فعقّب ذلك بقوله:

{ إِنَّا نَحْنُ }:

أي هو تعالى، أو ضَرْبٌ من ملائكته المقرَّبين المهيَّمينَ، الذين فعْلُهُم مطوي في فعل الحق، لفناء ذواتهم بغلبة سلطان النور الطامس الأزلي على أنوارهم، واختفاء أشعة تأثيراتهم العقلية، تحت شعاع الضوء القيُّومي.

{ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ }:

من النفوس الهالكة في عالم الظلمات ومقبرة الدنيا، وقبور الهيئات البَدَنيَّة النائمة نوم الغفلة، وقصور الوجود بروح المعارف والعلوم، ويقظة الكشف والشهود، ويؤيد هذا، ما ذُكِر عن الحسن: " إحياؤهم أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان ". وقيل: " نحيي الموتى بِبَعْثِهِمْ بعد مَمَاتِهم ".

{ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ }:

قيل: أي ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها، وَمَا هَلَكوا عنه من آثار حسنة: كعلم علموه، أو كتاب صنّفوه، أو بناء بنوه، من مسجد أو رباط أو قنطرة، أو نحو ذلك، أو سيئة: كوظيفة وخراج أنشأها بعض الظلمة على الناس، أو سِكة أحدثها، فيها تخسيرهم، أو لهو فيه صَدٌّ عن ذكر الله، من ألحان وملاهٍ، كالنرد والشطرنج، وكذلك كل سنَّة حسنة أو سنّة سيئة يُسْتَنّ بها، ونحوهُ قوله تعالى:يُنَبَّؤُاْ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة:13] قدّم من أعماله، أو أَخَّر من آثاره.

قاعدة فرقانية فيها مكاشفة قرآنية

الاشارة في تحقيق هذه الآية:

إن كل مَن فعل فعلاً، وتكلَّم كلاماً، أو عمِل عملاً صالحاً، أو اقْتَرَفَ معصيةً، حَصَلَ من ذلك أثر في نفسه، وحدث فيها حال وكيفية نفسانية، هي ضرب من الصورة والنقش، وإذا تكرَّرت الأفاعيل، وتكثَّرت الأقاويل، استحكمت الآثار في النفس، فصارت ملكاتٍ بعدما كانت أحوالاً، و " المقام " في لغة أهل التصوُّف، هو هذه الملكة، فيصدر بسببها الأفعال المناسبة لها بسهولة من غير رَوِية.

ومن هاهنا، يتأتى تعلّم الصنايع، وَتَهيُّؤ المكاسب العلمية والعملية، ولو لم يكن هذا التأثر للنفس، والاشتداد به فيها يوماً فيوماً، لم يكن للإنسان تعلّم الحرف والصنايع، بل يحتاج في كل تَراخٍ وتعطُّل، إلى تجشُّم كسب جديد، ولم ينجع التأديب والتهذيب في الإنسان، ولم يكن أيضاً في تأديب الأطفال وتمرينهم على الأعمال فائدة، فالآثار الحاصلة من الأفعال والأقوال في القلوب، بمنزلة النقوش والكتابة في الألواحأُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة:22] وتلك الألواح النفسية يقال لها: " صحائف الأعمال ".

وتلك الصور والنقوش الكتابية، تحتاج في حصولها في تلك الألواح، إلى مصورين وكتاب غير تلك الموضوعات، لما علِمتَ، من استحالة كون كشيء واحد، مصوِّراً ومصوَّراً ونقاشاً ومنتقشاً، ومعلِّماً ومتعلماً، وبالجملة فاعلاً وقابِلاً، واستحالة كون المعطي للكمال قاصراً عنه، فالمصوِّرون والكتَّابُ يجب أن يكونوا أجلَّ رتبةً، وأشدّ تجرّداً، وأعظم كرامة من النفوس القابلة، فهم " الكرام الكاتبون " ، وهم ضُرُوبٌ من ملائكة الله، المتعلقة بأعمال العباد وأقوالهم، لقوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4