الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } * { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } * { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }

{ ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ (6) ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }

ذلك المدبر " عالم " يكون علمه عين إيجاده للأشياء على أحكم وجه وأتقنه، وإيجاده للأشياء على أبلغ النظام والأحكام عين علمه وتدبيره، فيكون غيبه شهادة وشهادته غيباً وهو العزيز في غاية العظمة والكبرياء، لبراءة ذاته عن وصمة الحدوث والإمكان، وعن شوب الاشتراك والمماثلة مع الماهيات، " الرحيم " الذي يصل نور فيضه وأثر جوده إلى كل عال وسافل، وقاصٍ ودانٍ، لكونه في العلو الأعلى من جهة الذات والوجود، والدنوّ الأدنى من جهة الفيض والجود، ولذا عقبه بقوله: { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } ، فإن ذاته لما كانت في غاية الجلالة والعظمة، وكانت الموجودات كلها نتائج ذاته وأشعة أنوار صفاته، فيكون في غاية ما يمكن من الحسن والجمال والكمال، ولأنه ما من شيء خَلَقَهُ إلاَّ وهو مرتّب على ما اقتضته الحكمة الإلهية، وأوجبته العناية الأزلية، فتكون جميع المخلوقات حسنة في غاية الحسن المتصور في حقه، وإن تفاوتت وانقسمت إلى حَسَن وأحسن إذا قيس بعضها إلى بعض، كما قال سبحانه:لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين:4].

أما الشرور والآفات التي يتراءى في نظر المحجوبين، فهي ليست شروراً بالحقيقة، لأن الشر الحقيقي عدم أو عدمي لا وجود له، وأما الذي يؤدي إلى عدم ذات أو عدم كمال الذات مما يسمى باسم الشر مجازاً فهو إنما خلق لأجل النفع في أشياء آخر، لا يهملها خالق القضاء والقدر، وما يعد شراً، في تركه شرُّ أكثر بكثير منه، وهو أيضاً لا يوجد إلاَّ في جزء من وجه الأرض، وهي حقيرة بالقياس إلى السماء الدنيا الخالية عن هذه الآفات مع حقارتها بالنسبة إلى جملة السمٰوات المقهورة، المطموسة تحت أشعة الأنوار القادسات والقاهرات، الأسيرة كلها في قبضة الرحمن، ولا نسبة لعالم الإمكان الذي هو مثار القصور والنقصان، إلى جناب الكبرياء الباهر برهانه على الضياء.

فقد لاح أن الوجود كله على أحسن ما يتصور من الحُسن والنظام، ولنا براهين نيرة على هذا المطلب أوردناها في مواضع من كتبنا على وجه البسط والتحقيق، من أراد الوقوف عليها فليطلبها من هناك، والله ولي التوفيق.

وقيل: معنى { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } علم كيف يخلقه، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " قيمة كل امرئ ما يحسنه ". وحقيقته بحسن معرفته، أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق واتقان، وقرئ { خَلَقَهُ } على البدل، أي أحسن خَلْقَ كل شيء و " خلقه " على الوصف، أي كل شيء خلقه فقد أحسنه.

{ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9) }

لما وصف خلقه بالحسن، ولا ريب في أن حسن النظام بترتب الغاية المطلوبة منه، وغاية إيجاد العالم - كما بُيِّن - ذاته تعالى معروفاً ومعلوماً كما دل عليه الحديث القدسي من قوله تعالى: (كنتُ كنزاً مَخفياً فأحببت أن أعرف فخلقتُ الخلق لأعرف)، وحامل معرفة الله من جملة الأكوان الحادثة هو الروح الإنسانية التي هي نور من أنوار الله الفائضة على اللطيفة القلبية، وسره الواردة من أمر " كن " على عرش الجسم البخاري القلبي، المشابه للجرم السماوي المنعوت بقوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4 5 6