الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان أمر المعاد، وقلة التأمل فيه، وترك الاستعداد له.

" والنسيان " خلاف " التذكر " ، ونسبته إليه تعالى إمّا من باب صنعة المشاكلة، كما في قوله سبحانهوَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى:40].

والمعنى: أن انهماككم في الشهوات، أغفلكم وأنساكم عن معرفة الله وعلم المعاد، فنسيناكم، أي جازيناكم جزاء نسيانكم.

وإما لأن علمه تعالى بالممكنات، لما كان ناشياً عن علمه تعالى بذاته التي هي عين إيجاده لها، ويكون علمه بها تذكراً لها، لأنه علمها أولاً في مرتبة ذاتها علماً كمالياً إجماليا. ثم علمها في مرتبة متأخرة، هي عين وجوداتها علما ثانياً، وعدم هذا العلم بشيء الذي هو النسيان، عبارة عن عدم إيجاده إياها عدماً ناشياً عن عدم الاستعدادات، وفقدان الأسباب الموجبة إلى نحو كمالي من الوجود، فإن للوجود والحياة والنورية مراتب متفاوتة، ومقابل كل مرتبة منها مرتبة من العدم والموت والظلمة.

فحياة أهل الإيمان مطلقاً مرتبة لا تكون لغيرهم، لاختصاصهم بقوله (صلّى الله عليه وآله سلم): " المؤمن حي في الدارين ".

وحياة الشهداء مرتبة أخرى فوقها لقوله تعالى:وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [آل عمران:169 - 170].

وحياة الأولياء مرتبة فوق الجميع، لقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): " أبِيتُ عند ربي يطعمني ويسقيني " ، وهم الذين قال تعالى فيهم: " من قتلته فأنا دِيَتُهُ " أي حياته.

وفرق بين من يكون مرزوقاً عند الرب تعالى، ومن يكون يطعمه ويسقيه ربه، وكذا فرق بين من يكون حياً عند الرب، ومن تكون حياته بالحق تعالى.

وبإزاء كل من هذه الأقسام للحياة، قسم من الموت، كما قال الله تعالى للكفارلاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } [الفرقان:14].

فالمراد بنسيان المجرمين إيّاه تعالى ها هنا موت الجهل، لأن معرفته ومعرفة اليوم الآخر يؤديان إلى حياة الآخرة بلقاء الله، لأن ذات الله تعالى مبدأ الأشياء وغايتها، والمعرفة هنا بذر المشاهدة هناك، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، ونسيانه تعالى إياهم لازم، لأنه عبارة عن عدم إفاضة نور الحق عليهم، لعدم خروجهم عن غلاف البشرية، وحجب الشهوات والتعلقات بالأجرام الكثيفة الدنيوية، حتى صاروا عين هذه الحجب. وقيل: النسيان هنا بمعنى الترك، أي تركتم ذكر العاقبة، فتركناكم من الرحمة.

واعلم أن السعادة الإنسانية منوطة بشيئين:

بالعلم الذي هو عبارة عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

وبالعمل: الذي حاصله تصفية مرآة القلب عن شواغل الدنيا ومستلذاتها.

وترك الأول يوجب السقوط عن درجة أهل القرب والسعادة، وانتكاس الرأس.

وترك الثاني يوجب العذاب الأليم.

فالله سبحانه قد راعى هذه الدقيقة، فجعل كلاً من الشقاوتين منوطة بما يوجبه.

والمعنى: فذوقوا ما أنتم فيه من نكس الرؤوس إلى عالم الجحيم والخزي والحجاب الذائم، بسبب نسيان اللقاء، وذوقوا عذاب الخلد الأليم في دار جهنم، بسبب ما عملتم من ترك النظر في أمر العاقبة، وفعل المعاصي الموبقة، والكبائر المهلكة، والإخلاد إلى أرض الطبيعة السفلية، فالموت العقلي والهلاك الأخروي من لوازم الكفر والجهل المركب، والخلود في عذاب الجحيم ونار الحميم، من لوازم الإخلاد إلى شهوات الدنيا وحلاواتها التي هي بعينها آلام مؤذية وسموم مهلكة.