الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ }

هذه الآية من أرجى الآيات، وأقواها دلالة على رحمته، وتجاوزه عن سيّئات عباده العاصين، لأنّ وقوع قوله: { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ } إلى آخره عقيب ذكر هذه القبائح الشنيعة، والآثام الرديّة كعبادة العِجل، وكُفران النعمة، وجُحود النبوّة، وإنكار المعجزات الجليّة الواضحة، ونقض الميثاق المؤكَّدة من قِبل الله، وغير ذلك من صفات القلوب القاسية المظلمة يدلّ على كمال رأفته وعفوه.

قال القفّال: قد يعلم في الجملة أنّهم بعد قبول التوراة ورفْع الطور أعرَضوا عن التوراة، وترَكوا العمل بها، ونزَلوا عنها بأمور كثيرة، فحرّفوا التوراة، وقتلوا الأنبياء، وكفَروا بهم، وعصَوا أمرَهم. ومنها ما عمله أوائلهم. ومنها ما فعله متأخّروهم، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً، يخالفون موسى (عليه السلام)، ويعرضون، ويلقونه بكلّ أذى، ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك حتّى أنّه خسف الأرض ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون. وكلّ هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرؤون بها.

ثمَّ فعَل متأخّروهم ما لا خفاء به حتّى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفَروا بالمسيح وهمُّوا بقتْله. والقرآن وإن لم يكن فيه بيان ما تولَّوا به عن التوراة، لكن في الجملة معروفة.

وذلك إخبار من الله عن عناد أسلافهم، فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمّد (صلّى الله عليه وآله) من الكتاب وجُحودهم لحقِّه، وقد ذكر تعالى من أوصافهم ما ذكر.

المعنى:

و { لَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بعد ما تولَّيتم عن كتابه عقيب تلك الآيات والحُجج { لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } في الدنيا والآخرة. ولكن بفضله ورحمته أمهَلكم، وأدامَكم، لترجعوا إلى التوبة، وتعودوا إليه لعلّكم تفلحون.

وقيل معناه: { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } بالتوبة بعد إذ نكثْتم الميثاق الذي واثَقتموه، ونبذتُم العهدَ الذي أخذناه عليكم وراء ظهوركم، إذ رفع فوقكم الطور، وأنعم عليكم بالإسلام { وَرَحْمَتُهُ } التي رحمكم بها، فتجاوز عنكم بمراجعتكم إلى طاعة ربّكم { لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ }.

وقال أبو العالية: فضْل الله الإيمان، ورحمته القرآن، فيكون معناه: لولا إقداري لكم على الإيمان، وإزاحة علّتكم فيه لكنتم من الخاسرين.

وقيل معناه: { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } في رفع الجبَل فوقكم للتوفيق. واللُّطف الذي تبتُم عنده حتّى زالَ العذاب عنكم، وسقوط الجبل عليكم { لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي من الهالكين الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم.

ويحتمل أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله: { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ }. ثمّ قيل: { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } رجوعاً بالكلام إلى أوله. أي: لولا لطف الله بكم في إظهار تلك الآيات من رفْع الجبل وغيره لدُمتم على ردّكم الكتاب ولكنه تفضّل عليكم ورحمكم، فلطَف لكم بذلك حتى تبتُم.

فصل

الخير من الله والشر ليس إليه

قد تقرّر في الأُصول العقليّة أنَّ الخير ذاتيّ له، وهو المعبَّر عنه بالرحمة.

السابقالتالي
2