الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }

هذا هو الإنعام الخامس من الله لهم، وذلك لأنّه نبَّههم على عظيم ذنبهم، ثمّ نبَّههم على طريق تخلُّصهم من عذاب يوم القيامة، وذلك من أعظم النِّعَم في الدين، ثمّ إنّه تاب عليهم قبل فنائهم بالكليّة، فكان ذلك نعمة في حقّ الباقين.

يعني: أذكروا يا أهل الكتاب { إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } الذين عبَدوا الْعِجْل عند رجوعه من الوعد الذي وعده ربّه: { يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ }. أي نقصتم أنفسكم الثواب الواجب بالإقامة على عهد موسى (عليه السلام)، أو أضررتم بها حيث وضعتم العبادة غير موضعها { بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ } إلهاً.

والمفعول الثاني محذوفٌ لدلالة القرينة عليه، فإنّ الظلم إمّا بمعنى النقص، أو الإضرار الذي ليس بمستحقّ ولا فيه نفعٌ، ولا رفع مفسدة لا علماً ولا ظناً، فلمّا عبَدوا العِجْل فقد نقَصوا أنفسهم عن تمام الإنسانيّة، فإنّ الإنسان إذا كفَر بالله انسلخ عن الفطرة، وانخرط في سلْك البهائم والحشَرات. أو كانوا أضرّوا بأنفسهم لأنّ لا ضرر أعظم مما يؤدّي إلى عذاب الأبد، ولذلك قال تعالى:إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان:13].

{ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } أي: ارجعوا وأنيبوا إلى خالقكم بالطاعة والتوحيد.

والفرق بين " البارئ " و " الخالِق " أنّ الباري هو المبدِع المحدِث، والخالِق هو المقدِّر الناقل من صورة إلى صورة، ومن حال إلى حال. وأصل التركيب في اللغة لخلوص الشيء عن غيره إمّا على سبيل التقصّي، كقولكم: " بِرئَ المريضُ من مرَضه، والمديونُ من دَينه " أو على سبيل الإنشاء، كقوله: " بَرأَ الله آدمَ من الطين ".

سؤالٌ: لِمَ اختصّ هذا المقام بذكر هذا الاسم دون غيره من الأسماء الحسنى؟

جوابٌ: لأنّ الباري هو الذي خلَق الخلْق بريئاً من التفاوت لقوله تعالى:مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتِ } [الملك:3]. ومتميزاً بعضه من بعض بصور متباينة وأشكال مختلفة، فكان فيه تقريعٌ لهم بما وقع منهم من تَرك عبادة العالِم الخبير، الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال والصور المختلفة، وأبرياء من التفاوت إلى عبادة البقرَة التي هي مثَلٌ في الغباوة والبلادة وفي أمثال العرب: " أبلَد من ثورة " حتى عرَّضوا أنفسَهم لسخط الله.

قوله: { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } تتميماً لتوبتكم، إمّا بترك الشهوات واللَّذات وإماتة القُوى الحيوانيّة، بمنعها عن دواعيها كما قيل: " مَن لم يعذّب نفسه لم ينعِّمها، ومن لم يقتلها لم يحيها " وفي كلام بعض أعاظم الحكماء: " مُتْ بالإرادة تحيى بالطبيعة ". وفي الحديث النبوي على قائله وآله أشرف سلام الله: " مُوتوا قبل أن تمُوتوا " وروي أنّه قال أيضاً: " من أراد أن ينظر إلى ميّت يمشي فلينظر إليَّ " أو بالبخع، أو بقَتل بعضكم بعضاً فإنّ الأقوال فيه مختلفة.

السابقالتالي
2 3 4