الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

العَفو، والصفْح، والمغفرة، والتجاوز نظائر. قال ابن الأنباري:عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ } [التوبة:43]. معناه: مَحى الله عنك. مأخوذ من قولهم: " عفَت الريح الأثر " إذا درَسته ومحَته. فعفو الله محوه الذنوب عن العبْد.

والظاهر أنَّ المراد من قوله: { عَفَوْنَا عَنكُم } تركنا معاجلتكم بالعقاب في الدنيا { مِّن بَعْدِ } اتّخاذكم العِجل إلهاً { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي: تعرفون الله ورسوله. فإنّ تمام الشكر بأفضل أجزائه، وهو المعرفة.

لمَّا وقعت إليه الإشارة سابقاً من أنّ كلّ مقام من مقامات الدين ينتظم بأمور ثلاثة -: العلم، وهو أعلاها، والحال، وهو أوسطها. والعمل، وهو أدناها - فالشكر لله عبارة عن اعتقاد كونه خالقاً، ورازقاً للعباد، ومنعماً عليهم في الدنيا والآخرة بواسطة الملائكة والأنبياء. ويلزم ذلك الاعتقاد الفرح بذكر الله، ومعرفته، وحبّ لقائه، وخلوص القلب عن الالتفات بغير الله، وتصفيته عن كلّ خاطر رديء، ويلزمه أيضاً العمل بالأركان والجوارح بقدر ما يتيسّر ويُطاق.

واسم " الشُّكْرِ " تارةً يقع على الثلاثة، وتارةً يخصّ بالأول - نظراً إلى سرّه، وروحه، وباطنه - وتارة يخصّ بالآخر - نظراً إلى ظاهره المكشوف للحسّ - كما أنّ اسم الإيمان تارةً يقع على الاعتقاد بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتب، والرسل، والأئمة (عليهم السلام)، مع الإقرار باللسان، والعمل بالأركان. وتارة يقع على نفس الاعتقاد الصحيح، وهو النور الباقي للمؤمن إلى يوم القيامة، يسعى بين يديه وعن يمينه.

وقالت المعتزلة - ومنهم صاحب الكشاف -: " معنى قوله: { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } أي: غفرنا لكم بسبب إتيانكم بالتوبة التي هي قتلكم أنفسكم ". وفيه بحث من وجهين:

الأول: إنّ قبول التوبة واجبٌ عقلاً. وأداء الواجب لا يكون إنعاماً. فلو كان المراد ذلك فلا يحسن عدّه في معرض الإنعام والامتنان. والآية مسوقة في تعديد نِعم الله على بني إسرائيل.

والثاني: إنّ العفو اسم لإسقاط العقاب عن المستحق، فأمّا إسقاط ما يجب إسقاطه فلا يسمّى عفواً. فعُلم أنَّ ذلك المعنى الذي حملوا الآية عليه ضعيف عقلاً ولُغةً.

تنبيه

اعلم أنَّ هذه الآية دالّة على بطلان قول المعتزلة أنْ " لا عفو عن الكبائر " إذ لا كبيرة أكبر من اتّخاذ العِجل إلهاً، وإذا ثبت أنّه سبحانه عفَى عن كفر قوم موسى (عليه السلام) ولم يؤاخذهم على شِرْكهم، فبأن يعفو عن فسْق أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) كان أحقّ وأحرى.

تنبيه آخر

قد دلّت الآية أيضاً على أن الله تعالى لم يرد من العباد إلاّ الخير والطاعة، ولا يريد منهم الشرّ والعصيان. فإنّه تعالى لما بيَّن أنَّه إنّما عفى عنهم ولم يؤاخذهم لكي يشكروا، فلم يرد منهم في هذا العفو إلاّ الشكر، وهو أعظم الطاعات.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8