الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }

ولهذا قد وصف تعالى اولئك الموقنين بالآخرة على طريقة المدح بقوله عز وجل: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } معنى هذا الاستعلاء، بيان لتمكّنهم من الهُدى واستقرارهم عليه تشبيهاً بحال من اعتلى الشيء وركبه، واستعارة لِعلَى الموضوعةُ للثاني للأول، ونظيره: فلانٌ على الحقّ وفلانٌ على الباطل.

وربما وقع التصريحُ به كما في قولهم: ركِب على متْن الجهل وجعلَ الغوايّة مركَباً والجهلَ مطيّةً. وامتطى الباطلَ.

وتحقيق القول في كونهم على الهُدى تكرّر الإدراكات للأُمور العقليّة، وتكثّر الاشتغال بملاحظة الأشياء الملكوتيّة، والمواظبة على الأفكار الصحيحة، ودفْع الشكوك والشبهات عن المقاصد الحقّة، وطرد شياطين الأوهام والخيالات بنور المعرفة واليقين، حتّى تحصل للنفس ملكة الاتّصال بعالَم الملكوت متى شاءت من غير تجشّم وكثير تعمّل.

فكأنّه تعالى، لمّا مدحَهم بالإيمان بما أُنزل على الأنبياء (عليهم السلام)، والاطّلاع على ما في الصُّحف النازلة من السماء، مدحَهم بالإقامة على ذلك وإدامة النظَر فيها، والمواظبة على حراستها عن شُبه الضالّين، وأوهام المعطّلين وذلك واجبٌ على كلّ عاقل إذا كان متشدداً في الدين، خائفاً وجِلاً محاسِباً نفسَه في علمه وعمله بمقتضى البراهين، وإذا حرسَ نفسه عن الزيغ والضلال، وداومَ على العمل للآخرة من غير إخلال، كان ممدوحاً بكونه على هدى وعلى بصيرة.

وتنكير " هُدىً " ، للدلالة على ضربٍ مبهمٍ لا يُبلغ كنهُه ولا يُعلم غورُه ولا يُعرف قدْرُه قال بعض الأكابر: الهدى من الله كثيرٌ لا يبصره إلا بصير، ولا يُعمل به إلاّ يسير ألا ترى انّ نجوم السماء يبصرها كلّ بصير ولا يهتدي بها إلاّ عالِم خبير.

واعلم أنّ الوجه في انتظام هذه الآية وتعلّقها بما قبلها، انّ الجملة في محلّ الرفع بالخبَرية، إذا جُعل أحدُ الموصولين مفصولاً عن " المتّقين " ، فوقع الابتداء إما بـ { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ، أو بالذين الثاني مع صلته، وذلك لأنه لمّا قيل: { هُدىً لِلْمتّقين } ، فكأنه سُئل: ما بالُهم خُصّوا بذلك؟ فوقع الجواب بقوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } ، الى قوله { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } ، معناه أنّ الموصوفين بهذه الصفات أحقّاء بأن يكونوا مختصّين بالهُدى والفوز على الفلاح.

ويحتمل الاستيناف، فلا يكون لها محلٌّ من الإعراب. فكأنه نتيجة للأوصاف والأحكام المتقدّمة، أو جواب عن سؤال كأنه قيل: ما بال الموصوفين بهذه الصفات اختصّوا بالهدى؟ فاجيب بأنّ مثلَهم حقيق دون غيرهم بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً.

وايراد اسم الإشارة في هذا المقام ابلغ من أن يستأنف بإعادة الإسم وحده، لأنّ ذلك بمنزلة إعادة الموصوف بجميع صفاته المذكورة، فكان فيه ذكْر المقتضي للحكم بخلاف هذا. وفي تكريره تنبيه على أنّ اتّصافَهم بالصفات المذكورة، يقتضي كل واحد من الأمرين: الهدى والفلاح، على سبيل الاستقلال، وأن كلاً منهما كاف في تمّيزهم عن غيرهم.

السابقالتالي
2 3