الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }

يحتمل أن يراد بهؤلاء الموصوفين بالإيمان بما أُنزل على جميع الأنبياء وباليوم الآخر، أعيانُ المذكورين سابقا، كلاً أو بعضاً وتوسيط العاطف ها هنا كتوسيط بين الصفات في قولك: هو الشجاعُ والجوادُ وقوله:
الى الملكِ القَرْم وابن الهمام   وليثِ الكتيبة في المزدحَم
على معنى انّهم الجامعون بين الإيمان العلمي ولوازمه - من التقوى عن محارم الله، والعملِ بما فرَضه الله عليهم من العبادات البدنية والماليّة - وبين الإيمان الكشفي بما لا يستقلّ العقل بإثباته، من كيفيّة إنزال الوحي على الأنبياء، وأحوال البعْث والحشْر. أو انّهم الجامعون بين المعقول والمسموع من الإيمان بالله واليوم الآخر مع العمل الصالح. وكرّر الموصول تنبيهاً على تباين المسلكين وتفاوت المنقبتين.

ويحتمل أن يراد بهم طائفة أخرى، وهم مؤمنوا أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأترابه، من الذين آمنوا بالله لا عن شرك. فاشتمل ايمانهم على كلّ وحي أُنزل من عند الله وأيقنوا بالآخرة ايماناً زالَ معه ما كانوا عليه من أنّه: لا يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارىٰ، وأن النار لن تمسّهم إلاّ أياماً معدودات، ومن اختلافهم في نعيم الجنّة كالتلّذذ بالمطاعم والمناكح؛ أهو على حسب مجراها في الدنيا أم غيره، واختلافهم في الدوام والانقطاع.

فعلى هذا، إما أن تكون هذه الجملة معطوفة على: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } فيكون هؤلاء داخلين مع المذكورين أولاً في جملة المتقين، دخول أخصَّين متقابلين تحت أعمّ، وجهة التباين أنّ المراد بأولئك هم الذين آمنوا عقيب شرك وإنكار، وبهؤلاء مقابلوهم ممّن ليس كذلك، وكانت الآيتان تفصيلاً للمتّقين.

وإما أن تكون معطوفة على المتّقين، فكأنّه قال: هدىً للمتّقين عن الشرك، وللّذين آمنوا من أهل الملل. والطائفتان هما أهل التزكية وأهل التحلية.

وربما قيل: إن قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } وإن كان شاملاً لأهل الكتاب وغيرهم، إلا انّ دلالة العامّ على بعض ما دخل تحته، ليس في القوّة كدلالة لفظ مخصوص به، إذ العامّ ممّا يحتمل التخصيص بما سوى هذا البعض، والخاصّ لا يحتمل ذلك، ولمّا كانت السورة مدنيّة وقد شرّف الله المسلمين بقوله: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ذكر بعد ذلك مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ونُظرائه في العلم واليقين بقوله: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } - الى آخره - لأنّ في هذا التخصيص بالذكْر مزيد تشريف لهم، كما في ذكر جبرائيل وميكائيل بعد الملائكة، وترغيب لأمثالهم في الدين القويم والصراط المستقيم، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاصّ بعد ذلك العامّ.

فصل

المراد { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } ، صورةُ ألفاظ القرآن السمعيَّة بأسرها، نزولاً سمعيّاً في عالَم الأشخاص والأجسام الغائبة عنّا، وصورة معانيها العقليّة عن آخرها، نزولاً قلبيّا في عالّم الأرواح القدسيّة، وإنّما عبَّر عن إنزالها بلفظ الماضي، وإن كان بعضها ممّا يترقّب إنزاله؛ لأنّ الأشياء المتجدّدة في موطن الدنيا، المتعاقبة في أزمنة كثيرة منها، إنّما هي مجتمعة ثابتة في المواطن العالية في زمان واحد دفعة واحدة، كما أشار اليه قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8